مؤانسة في عاميَّة السودان
اليوم وأنت تقرأ هذا المقال، تكون قد صُمت العشر الأوائل من الشهر الفضيل، وقد ارتويت من الأحاديث التي تُمجّد أيام الصيام، وتحُض على استقبال أيام الرحمة، التي هي أول رمضان، ثم تستنطق فيك كل كلمات الاستغفار، وطلب المغفرة.. لهذا رأيت أن أريحك – مؤقتاً – عن هذا الحديث، وأن أنقلك إلى (مؤانسة) هي أقرب إلى (تخاريف صائم) ومحاولة للتسلية المفيدة التي نتأمل أن تناقش بعض المواضيع الجادة بقليل من (بُهار) المؤانسة.. وربما يكون السبب هو أني أعتدّ كثيراً بدارِجة وعامّية أهل السودان.. وكثيراً ما نناقش هذه اللغة في جلسات السمر و(الونسة) الخاصة.. فأذن لي أن أتحدث معك حول بعض مفردات عاميتنا السودانية ذات الخصوصية والتفرُّد، التي هي من صُنع لغة تفاهم جمعيَّة (صَكّت) مفردات هي نسيج وحدها في عاميّة اللغة السودانية.. وسنجد أنها لم تقتصر على منطقة، وإنما أصبحت مصطلحات متداولة، وذات قبول مبرئ للحديث، وموافق عليه في معظم أنحاء السودان.
ستلاحظ – قارئي الكريم – أن المفردات التي سأتطرق إلها تتعلق ببعض الأنشطة الاجتماعية، والمناسبات الخاصة، وبعض المهن، وبعض الصفات، وكذلك الممارسات.. فمثلاً:
في مناسبات الأعراس يتحدثون عن:
(دق الريحة)، (يُكفُوا الدِلْكة)، (لمس القُصّة)، (قُولة خير)، (فتح الخشُم)، (قَطْعْ الرَحَط)، (حق البنات)، (الجِرْتِق)، (سدّ المال)، (خَت الحِنّة)، (الصبحية)، (الدُخلّة)، (الرحولة)، (ناس العريس).
وفي مناسبات الأحزان والمآتم يتحدثون عن:
(بيت البِكَا)، (شيل الفاتحة)، (عَصَرْ الفراش)، (شِيل الحِدْ)، (فَكْ الحِدْ)، (كَسَرْ التُربة)، (في الحَبِسْ)، (تمّت الحَبِسْ)، (رَفَعْ الفُراش).. وللنساء في السودان إسهام ضخم في (صك) المفردات الخاصة بينهن، خاصة في فن (الطبيخ) وصُنع الطعام، فيقولون – لا أحب نون النسوة وأساويهن بالرجال:
(تَلقيم القهوة)، (فَتْح الفَطِيرْ)، (رَميّ اللقيمات)، (قلي البن)، (دَقْ البُن)، (حَشْ البصل)، (فَلْفَلّة الرُز)، (فَرْم اللحمة)، (قَدْحْ الثُوم)، (مُلايَقَة المُلاح)، (يُفوّر اللبن)، (يِقنّن اللبن)، (يقوّرُوا المحشي)، (يَعُوسوا الآبري)، (يزرِّعوا الزرّيعة)، (يُكُوْجنُوا العجين)، (يركبّوا البليلة)، (يسوُّوا الطعمية)، (يرمُوا الطعمية)، (يفركوا الخضرة)، (يشدّوا الملاح)، (يكتلو النار)، (ينجضوا اللحمة)، (يحمِّروا اللحمة)، (يصفّوا الشربات)، (يرصُّوا الكبابي)، (يتمِّرُوا الفناجين)، (يمستِكُوا القهوة)، (يفندكُوا العيش)، (يقشِّرُوا البطاطس)، (يعجنُوا الدقيق)، (يبِلِّو الآبري)، (يطعّمُوا المرارة)، (يشرُوا الهدوم)، (يورِقُوا الخُضار)، (يقمِعِّوا البامية)، (يفطِرُوا العجين)، (يمرِرُوا العجين).
وللنساء كلمات مصكوكة بعناية في شأن الزينة:
(تسرِيحَة الشعر)، (يكوفتُو الشعر)، (ينقشُوا الحِنّة)، (اضفّرُوا الخُصَل).
وكذلك في شأن خدمة المنزل: (تنقيع الموية)، (ترويق الحِتّة)، (قَشْ الحُوش)، (فرْش المِلايّة)، (تكييس المخدّة).
أما الرجال فلهم أيضا لغة ولكنها ليست كمفردات النساء خاصة في مجال المهن.. فالمزارع له قاموسه الخاص بالزراعة:
(يكدِّب)، (يقَرْع المُوية)، (يعدّل التَقْنَد)، (يَتُودِب العيش)، (يرْقَع الزراعة)، (يلقّح التمر)، (يُمورِق المارُوق)، (يَطُقْ الصمُغ)، (يشلِّخ الزَرِع)، (يحِش القش)، (يهزّ اللبن)، (يقطِّع التمُر).
والبنَّاء يقول: (يعجِن المُوْنَة)، (يرمي المُدماك)، (يخُتْ السّاس)، (يصُب الخرسانة)، (يرفع السقِفْ)، (يقُص الأبواب)، (يبيّض الحيطة)..
ويهتم الفتيان بالمظهر:
(يشنّق الطاقية)، (يلف العِمّة)، (يكوِي المنطلون سيف)، (يضرب الجزمة ورنيش)، (يحلق كَرِي).
وللرجل لغة في التعامل مع الحيوانات، فيقول للكلب (جَرْ)، و للحمار(حاو)، وللكديسة (بِسْ)، وللدجاج (كَرْ)، وللنعجة (عيّ) وللمعزة (تَكْ)..
وفي حياته العامة يصك ألفاظاً لا تدري من أين أتى بهذه الألفاظ، التي يخلو منها قاموس اللهجة العامية، فمثلاً يقول:
(يفوِّر اللستِك)، (يفوِّر الرأس)، (يدوِّر العربة)، (يركب الموتر)، (يسوق العَجَلة)، (يُرش الفتّة)، (ملّح الكِسْرة)، (دقّ التلفون)، (قاعد يكُوضِم)، (واقِف زِنْهَاد)، (واقف ألِفْ أحَمَرْ)، (ولّع سِيجارة).
ويصف بعض الناس بألفاظ ظالمة وغير محددة المعنى.. فمثلاً:
يقول لشخص (زول تُوزّة)، (زُول عَمِيكَة)، (زول هَطَلّة)، (زول عوير)، (زول دِلاهَة)، (دَه مِخَرِّف)، (طلّق لسانُه)، (عِينو مكوة)، (عينو حارة)، (راسو قوِّي)، (أَصْنَجْ)، (فَقْرِي)، (ده مَرْمِي الله)، (مسكين محمُول)، (مليّان شُفّع)، (ذمّتو لستك)، (زول الله ساي)، (زول ساكِت)، (زول نعجة)، (ما فيهو فائدة)، (عديم إحساس)، (حلو لسان).
أما إذا غضب من شخص ناداه فقال له نعم.. يقول: (النِعَامَة التزازيك)، وإن قال: (هوي) قال له (الهوا اللمزّعك)، وإن قال (آيّ) قال له (اللوّاية التلوي أيدك).
وحين يشكو عن حاله فتراه يقول متبرماً:
(الولد نجّضنا نجاض)، (هرد كلانا وكبدنا)، (جنّنا جِن كَلَكي)، ويستطرد قائلاً: (رامِيني الشاي)، (متقريّف خالص)، مصاريني تكورك)، (بايْت القوّا)، (مصدّع يومين)، (كايس سبب ليهو)، (ماجَايب خبر الحاصل).
وإذا أراد أن يشكِّر زول يقول:
(سِكِّينو حمرا)، (عينو شرارة)، (نارو واقدة)، (زُول حارّة)، (زول ضَكر)، (زول ضُرُس)، (زول قِدام)، (حرِيف كورة)، (لعّاب لعب الجن)، (غنّاي يبكي الطير)، (صُوتو جرس)، (ايدو لاحقة).
أما إذا ما غضب مرة أخرى فيقول:
(ده زُول قومابي)، (ما زُول حارة)، (مرتُو ستّو)، (صُول كبير)، (مقصّر في كل حاجة)، (فسِل فسالة)، (لا قُفّة ولا أضان قُفّة)، (تاذة ونطاحة)، (بِتَاع شِبَك)، (مَطَاط لُبنانة)، (في خشْمُو راديُو)، (نِعامَة بس)، (بعامة تقول) – البعامة هي (شيتا)..
وهناك عبارات مهمة المعنى، فإذا قال (دَه شَطب راسي)، ترى ماذا قال هذا حتى تم شطب رأس صاحبنا هذا؟ ويقول (زازا بيّ)، (زولك رِكِبْ التُونسية)، (مسكين لقاهو بص سيرة)، (فكُوه وطار)، (ما صَدَق فَكّ فكاك)، (قام صُوف)، (دقّ ياي).
هذه الألفاظ وهذه التعابير في عاميّة أهل السودان قصدت من رصدها ليس (قِلّة شغلة)، وإنما هي تعابير جعلتني أتأمل.. مثلاً عبارة أو كلمة (يفوّر) جاءت في عدة سياقات.. (يفوّر اللستك) ولا أدري لماذا هذا (التفوير) وكيف يكون مع (تفوير اللبن)، ثم ماذا إذا وصل (لتفوير المخ)، ثم هناك عبارات اتفقت فيها كل النساء خاصة في مجال صناعة الطعام.. فكل سيدة تتعامل في المطبخ بهذه المفردات.. من أين أتت كلمة (القَدْحَة) و(فَلْفَلة الرز)، أو (تركيب البليلة).. ثم لماذا نقول (يبلع الحبّة)، و(يقطع التذكرة)، و(يدق التلفون)، و(ينقِّل الجزمة)، وحتى (يسف السفّة)، و(يولع السيجارة)؟، كل كلمة منها لا تناسب الفعل.. (يدُق التلفون)، ولماذا (رمي اللقيمات)، و(فتح الفطير)؟، ولماذا (نشيل الفاتحة)، و(نكسّر التُربة)، و(نرفع الفُراش)، و(نفتح الخشم)، ونصف الشجاع (عينو حمرا شرارة)، هل للرمّد من صلة؟ ثم لماذا (نكسِر الجلابية عمود)؟ ولماذا (ندق الريحة)، وهي مصدر النشوة لنا؟
إن في صك هذه العبارات تكمُن عملية فكرية وعقلية جمعية جعلت العامية السودانية تفرداً يقتضي التأمل من جانبي والدراسة من جانب الباحثين الذين سيضيفون لهذه القائمة من الألفاظ مئات الكلمات والمصلحات.
ماذا وأنت في لجة قراءة هذا المقال أخذت ورقة، وبدأت رصد بعض كلمات فلتت مني، ونسيتها، وأنت تجدها حاضرة عندك، فبدلاً من طي صفحة هذا المقال اكتب لـ (المجهر).. ربما نخرج بقاموس على الأقل يرصد ويوثّق لهذه اللغة، ويضيف لها بعض عبارات صكها الشباب الذين لا أعرف لُغتهم مثل (دَقَسْ) وغيرها، ثم ربما يسأل بعضهم ما معنى (كدّب) في الزراعة أو (رقع)، أو (عدل التقند)؟ إن عدم فهم هذه الكلمات طبيعي.. وطبيعي أن تكون بعض هذه المفردات قد ماتت.. أو نسيها الناس.. ولكن أليست عامية أهل السودان هي أحد ممسكات الوحدة الوطنية.. أو ليست هي لغة الغناء الذي يزيد في الأكباد كميات سُكر الشجن؟ ألم يقل الكابلي في أغنيته وبصوته الدافئ مستعطفاً (المراية) كلميني يا مراية؟!
أنا أطلب منكم أن تكلموني بالدارجي والدارجي (المُقنن)، الذي أؤكد أنه ليس من مفسدات الصوم، سيما أني أرى (أهل بيتي، (صفوا الآبري)، (ركبو البليلة)، (رصوا العدة)، و(ساطُوا اللُقمّة)، وانتظروا (يفتح التلفزيون)، ويرفع الآذان، ويبدأ (شراب الموية)..!