لا يليق بك
{ لماذا انتحر الشاعر والأديب “علي عبد القيوم” في موسكو؟ هل بسبب سقوط النظرية الشيوعية وغروب شمسها أم لوصول الإسلاميين للحكم في وطنه السودان فاختار السقوط من شقة في بناية شاهقة، منهياً بذلك حياته العامرة بالمآسي والسجون وشظف العيش والقلق والكتابة والنحت على أوراق صفراء؟؟ وكيف نعى الشاعر السوري “محمد الماغوط” نفسه قبل الموت وهو يشير لتجربته في أحضان الماركسية بسوريا التي اختارت اسم الحزب الاشتراكي، وما كان “الماغوط” ملحداً حينما كتب (غرب عدن وشرق الله) ولكنه كان يائساً محطماً معنوياً مثل “المحبوب عبد السلام” حينما صور خروجه من مطار الخرطوم متأملاً (العيش الملا القندول) وسقوط عهد “الترابي” وغروب شمس التنظيم الذي ضاق بأمينه العام المفكر، ووضعه في غياهب الجب سجيناً وأصبح تلميذه د. “عوض الجاز” على خزائن الأرض أميناً.. هكذا يخرج المفكرون والمثقفون والعصبة من أولى النظر والرؤى عن أسوار الأحزاب العقائدية في كل زمان ومكان.. فقد خرج “تروتسكي” من عصبة الحزب الشيوعي وقال قولته الشهيرة (من بيده السلطة يقرر في أشياء الآخرين)، وخرج “تقي الدين شهاب” من حركة الإسلام في باكستان وكتب مرثية لتجربة فكرية تحت عنوان (سقوط الإمام).
واليوم يضع الحزب الشيوعي السطر الأخير في ملف المفكر “الشفيع خضر” من خلال ثلاثة حروف (فصل) لتذهب التبريرات هنا وهناك، تبرر أسباب الفصل تنظيمياً، ويغمض الحزب الشيوعي عينيه عن الأسباب الحقيقية، حيث تمايز “الشفيع خضر” عن عصبة من الماركسيين التراثيين الكلاسيكيين القابضين على مفاصل حزب آخذ في الاحتضار والموت المعلن.. وفكر “الشفيع” وقدر ونظر في مآلات المستقبل، وجاء بدعوة عدّوها جاهلية حينما طالب بنقد التجربة وتطوير الممارسة السياسية والنظر لواقع السودان بعين مفتوحة.. وأعاد فكرة قديمة لبعض الشيوعيين الذين كانوا يطالبون بتغيير اسم الحزب وتبديل أدبياته، وتغيير آليات نشاطه وسط الجماهير واعتبار الماركسية تراثاً إنسانياً مشاعاً.. والاشتراكية نظرية قابلة للتعايش مع الآخر في مختلف تضاريس الجغرافية البشرية.
من يقرأ كتابات د. “الشفيع خضر” ونقده غير الجهير والمهذب جداً لسلوك الحزب الشيوعي وخياراته، يضع الرجل في مقام الرفيق “أكرم الحوارني” وهو يجلس في مقهى بباريس يرتشف النبيذ والقهوة الفرنسية، ويقرر مغادرة السفينة الفارغة.. لأن ثقوب القاع قد جعلت الماء يتسرب إلى داخلها.
ومثلما طرد الإسلاميون في شهر سبتمبر بعد أحداث العنف التي شهدتها الخرطوم مفكراً ومثقفاً في قيمة “غازي صلاح الدين” ومن قبله استقال من التنظيم طوعاً المفكر “عبد الوهاب الأفندي، وطرد التنظيميون من أهل الفعل د. “التجاني عبد القادر حامد”، فإن الشيوعيين اليوم يفعلون بـ”الشفيع خضر” ما فعلوه من قبل بـ”الخاتم عدلان” حتى مات بالحسرة قبل أن يموت ويدفن في وطنه الذي خرج منه خلسة وسراً وعاد علناً.. لكنه جثة بلا روح.
هي تقاليد قديمة، أن تضيق عباءة الأحزاب بأصحاب البصائر والضمائر.. وحينما كتب على بعض أستاذة الجامعات السودانية هجرة قسرية كان نصيب وحظ الأديب الشاعر د. “محمد الواثق” الهجرة إلى ليبيا، لكنه نعى تجربة الهجرة قبل الأوبة وهو يقول (ما كنا في الخرطوم نعاني ضيق معيشة لو ساد فيها أهل البصائر).. ولا مشاحة أن د. “الشفيع خضر” الذي (استرخص) العصبة من الكلاسيكيين عليه الإخطار المباشر، واختاروا الـ(فيسبوك) والـ(واتساب) كوسائط تواصل وإبلاغ لقرار الفصل، فإنه يعيد ترديد مقولة “الواثق” الذي دفن في مقابر النيّة.. (ما كنا في الحزب الشيوعي نعاني ضيق سعة لو ساد في الحزب بعد رحيل “نقد” أهل البصائر).