خيبة دولة
في كل يوم يتبخر حلم السودانيين في الوطن الجنوبي إلى سراب وحسرة وأسى وهم يجترون ذكريات الأمس حينما كان السودان موحداً.. والجنوب يحارب خمسة وخمسين عاماً من أجل إما إنصاف لشعبه داخل الوطن الموحد أو الاستقلال والانقسام بعد أن دب اليأس والقنوط في النفوس وانقطع الرجاء.. ولكن النخبة الجنوبية من تيار الذاتية قد خاب أمل الشعب فيها وتكشفت سوءات ما كانوا يضمرون لبعضهم البعض ويجهض مشروع السودان الجديد ويموت قبل أن يرى الشمس.. ويسقط الجنوب في أتون حروب قتلت من شعبه ما لم يقتل في كل الحروب التي خاضها الجنوبيون منذ عام 1955 وحتى يوم رفع “سلفاكير” علم جنوب السودان كدولة مستقلة عن الشمال.
نعم الجنوبيون الوحدويون دفعوا ثمن قناعاتهم غالياً وحارب أهل الجنوب في الجيش السوداني من أجل الوحدة مثلما حارب الشماليون.. بل شكل الجنوب ثقلاً في الجيش ورقماً صعباً في معادلة الوحدة والانفصال.. ولكن اليوم بدأت الحسرة والأسى على خيبة الأمل وتبدد الحلم حتى اضطرت دولة جنوب السودان أن تلغي احتفالات الذكرى الخامسة لاستقلال البلاد تحت وطأة الأوضاع الاقتصادية شديدة البؤس ونضوب المال في خزائن الدولة بسبب ذهاب كل موارد الدولة لتمويل حرب يخوضها جنود وهم لا يعرفون شيئاً عن دواعي القتال وأسبابه.. وفي ظل الحرب نضب البترول الذي شكل عامل إغراء اقتصادي للنخب لتقود الشعب الجنوبي معصوب العينين إلى استقلال لم يصنه الذين صنعوه ، فحاقت بهم الندامة على ما صنعت أيديهم.. وفي كل العالم الثالث الذي خضع للاستعمار الغربي فإن القادة الذين يرفعون علم الاستقلال ورايات الحرية ينظر إليهم شعبهم بعين الرضا والتوقير الذي يبلغ أحياناً القداسة.. وأخطاء آباء الاستقلال مغفورة عند شعوبهم إلا خطيئة الجنوبيين.. فإنها كانت أخطاء كارثية ألحقت بالشعب العذاب وأورثته الوضع الراهن الذي جعل هذه الدولة على حافة الانهيار الاقتصادي والاجتماعي.. حيث يحترق الجنوب الآن وما عادت الحرب صراعاً بين “سلفاكير” و”مشار”.. ولكنها أصبحت حرباً شاملة بين مكونات الجنوب وبات الموت يحصد الأرواح في كل صباح ومساء.. وانسدت دروب الحلول السلمية وقد تشكل رأي عام مؤثر جداً يطالب بعودة الوحدة مرة أخرى.. خاصة وقد توالت موجات الهجرة شمالاً وبلغ عدد الجنوبيين هنا في السودان الملايين ساخطين ناقمين على قادة الجنوب ورموزه.
نعم خسر الجنوب الكثير خلال السنوات الخمس الماضية وتدحرج إلى أسفل ويئس الوسطاء من الأصدقاء والجيران من علاج أمراض هذا البلد.. ولكن لا يزال أمام قادته فرصة لتدارك تفتت الجنوب وسقوطه.. وأولى مراحل العلاج نظافة الملعب من الأيادي الملوثة بدماء الشعب ومحاربة الفساد والكف عن احتضان بعض الجماعات المتمردة مثل الجيش الشعبي شمال، وجماعات من دارفور.