استفتاء النجوع والمدن في ختام ليالي "وردي الوطن"
حلق طيف الفنان والموسيقار الراحل الكبير “محمد وردي” في جنبات قاعة الصداقة، وأحال الهرم النوبي الزمن إلى هالة تاريخية أبقت السودان وطناً للجميع، ثم جعلته لساعات مكاناً لكل أهله من الشمال والغرب والشرق والوسط دون أن يغيب الجنوب عن أفئدة الحاضرين الذين ضاقت بهم جنبات قاعة الصداقة أمسية الخميس بمناسبة ختام فعاليات ليالي “وردي الوطن”.
(1)
لم يتبق شبر لمتسع، كما لم يبق قلب لم يرفرف طرباً وفرحاً، وردي جمع أفئدة السودانيين ودوماً ظل يرتفع بهم إلى قوميتهم النبيلة، وهكذا فعل في هذه الأمسية كما ظل حياً وميتاً.. حضور لكل أطياف المجتمع السوداني، فنانون وشعراء وأدباء ودبلوماسيون ورجال سلك دبلوماسي، جاءوا من أجل عيون وردي التي لطالما حملت وطنها في كل المنافي، عدد كبير من الجالية الأثيوبية لفتوا الأنظار بزيهم الأبيض الجميل وظلوا يلوحون بعلم بلدهم كلما علت حنجرة الإمبراطور القوية، وظلوا يتمايلون يمنة ويسرة.
{ المعلم صاحب الصوت القوي
عادت ذاكرة الأيام إلى الوراء لتحكي المشهد في ذلك اليوم شديد الحرارة في العام (1950م) كنت ثالث ثلاثة نجلس في الإذاعة السودانية، يصف المشهد البروفيسور “علي شمو” شخصي وكبيرنا المرحوم “محمد عبد الرحمن الخانجي” والراحل “راجي أبو بكر”، كنت مذيعاً صغيراً و”اليوم أكان جمعة” بعد انتهاء الإرسال الصباحي، وغادر العاملون المبنى، دخل شاب قروي نحيل الجسد يرتدي بنطالاً وقميصاً أبيض اللون، ويحمل عوداً وريشة، كنت أعلم من أين جاء، ولكني لا أعلم كيف جاء. ألقى علينا السلام، وبعد رد السلام، بقيت مع “الخانجي” في انتظار معلم المدرسة الصغرى القادم من شندي- يواصل “شمو”- جلس المرحومان في مكان القيادة، بينما جلس الشاب على الكنبة، وبدأ يداعب العود، ثم غنى وصدح، وتوالت الأغنيات، كان الصوت قوياً والصدى عالياً حتى يخيل إلينا أنه قادم من مكان بعيد لا نعرفه، فأمرت أن أتولى أمر ذلك الشاب “محمد وردي” الذي كان يماثلني في العمر.
{ الصعود إلى القمة
ولا ينسي “شمو” التذكير بالموسيقيين الأفذاذ وقتها “علاء الدين حمزة، عبد الله عربي، عبد الفتاح الله جابو” وبقية العقد الفريد، انطلق الشاب وردي كالصاروخ ليتربع على قمة الغناء، ووجد نفسه مع من تربع عليه من فناني الدرجة الأولى، وكان الفضل في ذلك للإذاعي الحاسم “متولي عيد” الذي استفتى الفنانين بأنه يريد ترقية هذا الفنان إلى الدرجة الأولى- يضيف”شمو”- ظللت أراقب تلك الشخصية الودودة المخلصة كأتراب وزملاء وأنداد، وكان أول تسجيل لـ”وردي” في العام 1957م، وهو امتاز بكونه شاعراً وملحناً وموسيقاراً اجتمعت له كلها، كان كريماً في الفن، حيث جاد بألحانه لزملائه، ومتواضعاً غنى ألحان المبدعين، وهو مع ذلك جعل من الأنشودة الوطنية أغنية رقيقة تطرب المستمع، أما في العام 1964م، حينما غنى “اليوم نرفع راية استقلالنا” حتى ظن البعض أن الاستقلال كان في ذلك العام.. هكذا تحدث الأستاذ علي شمو في ليلة “وردي الوطن”.
{ الحلنقي والطرف الآخر من النهر
مددت لـ”جوليا وردي” ابنته ورقة ثم طلبت منها أن تكتب لي شيئاً في هذه الليلة، قالت: “سيبقى خالداً فينا معلماً للعطاء، ملهماً لأجيال، مهذب الإحساس، أفتقده حبيب عمري، وحافظ تاريخي، برغم الزخم والحضور يبقى المكان خالياً”. أما صاحب “عصافير الخريف” الشاعر الرقيق “اسحق الحلنقي” فقال لي: وردي لم يكن غائباً عني في يوم من الأيام، فهو انتقل إلى الطرف الآخر من النهر، في حضوره غياب وفي غيابه حضور، هو خالد في أعماقنا بفنه وإبداعه.. وطلبت من الملحق العسكري المصري بالخرطوم سعادة العميد “خالد بيومي” الحديث عن “وردي” فقال: كنت حريصاً جداً لأحضر هذه الليلة الختامية لفنان عظيم بقيمة الأستاذ “وردي”، وسعيد بوجودي وسط هذه الكوكبة من الفنانين وبقية أطياف المجتمع السوداني.
{ فنانون في حضرة “وردي”
أمتع الفنانون “عصام محمد نور” (حلفتك يا قلبي)، “نور الدين صابر”، “عبد الوهاب وردي” مايسترو الفرقة الموسيقية، “آمال النور”، “شذى” (عصافير الخريف)، عاطف عبد الحي (يا ناسينا)، “صلاح الضي”، الفنان “أبو بكر سيد أحمد” والموسيقار “حافظ عبد الرحمن”، بجانب تقديم استعراضي للحضارة والفن النوبي وبانوراما تلفزيونية عن حياة “وردي” من على خشبة المسرح .
{ مركز محمد وردي للفنون والآداب والثقافة
وفي نهاية الليلة الختامية لمهرجان “وردي الوطن” التي اشتملت على معرض مصاحب، وشرفها بالحضور ممثل لوزير الثقافة والإعلام– ولاية الخرطوم، بمشاركة مدير عام الوزارة “عبد الإله أبوسن”، تم تكريم أسرة الفنان الموسيقار “محمد وردي” التي حضرت الاحتفال، الحاجة “ثريا حسن وردي” وتكريم رفيقة “وردي” الراحلة “علوية محمود”، إضافة لشخصيات ساهمت في إنجاح المهرجان، فتم تكريم الفريق الركن “عبد الرحيم محمد حسين” وزير الدفاع، والفريق أول “بكري حسن صالح”، وعدد كبير من الشخصيات والمؤسسات التجارية والعلمية والثقافية والرياضية المشاركة، كما أعلن في الختام عن قيام مشروع قومي كبير لبناء مركز محمد وردي للفنون والآداب والثقافة.