الموية جات
كثيراً ما يتذكر مواطنو الأبيض عاصمة كردفان سنوات الجدب والجفاف وقلة المياه حتى أصبحت الأغنية المفضلة في الأعراس (الموية جات يا “بشارة” كتروا الزغرات لبشارة)، و”بشارة” المعني هو الفريق “الفاتح محمد بشارة” أحد الذين خلدوا أسماءهم في سفر التاريخ حاكماً على إقليم كردفان.. ولم يتغنَّ المطرب الراحل “العميري” بأغنية تراثية ذات مضامين جمالية رائعة مثل أغنية (أندريا) التي كتبتها شاعرة من بادية حمر في سائق (تانكر) مياه، من جنوب السودان، كان يسقي العطشان ومن النعم وربات الخدود.. وأمس سألت المهندس “فضل محمود” مدير المياه بولاية شرق دارفور عن سعر برميل الماء بعاصمة الولاية الضعين ومدن عسلاية وعديلة وشعيرية، فقال إن برميل الماء سعره (7) جنيهات، وفي فصل الصيف يصل لـ(20) جنيهاً.. وفي ذاكرتي ومخيلتي قصة العطش في (مثلث العطش) بغرب كردفان أقاصي دار حمر، من صقع الجمل حتى خماس الدونكي، وعيال بخيت، حيث يبلغ سعر برميل الماء (30) جنيهاً.. رغم ذلك فإن فتاة عاشقة لمحبوبها تتغنى بوله وحب لمن تسلل لمسام قلبها وتقول:
لو ما بخاف الناس بسكن معاك خَمَّاس
هذه العاشقة لا تبالي بنكد الدنيا وشظف العيش في سبيل من أحبه قلبها.. وفي الخرطوم تثور الدنيا وينسحب نواب الحزب الاتحادي الديمقراطي من برلمان شيخ العرب،”صديق الشيخ”، احتجاجاً على زيادة أسعار مياه الشرب بنسبة (100%).
زيادات الخرطوم جعلت ساكني الدرجة الثالثة.. أي الأحياء الشعبية من أمثالنا وهم إما جاءت بهم الكوارث والمصائب التي حلت بديارهم في الريف، وهي كوارث ومصائب من صنع الخرطوم العاصمة.. أو من فرضت عليهم طبيعة وظائفهم البقاء بالقرب من الرئيس، هؤلاء يدفعون مبلغ (30) جنيهاً في الشهر بدلاً من (15) جنيهاً، وساكنو الدرجة الثالثة وهم طبقة وسطى، ممن يأكلون البيتزا والشاورما، هؤلاء يدفعون (55) جنيهاً في الشهر بدلاً من (25) جنيهاً، أما الناس القيافة الذين يقطنون كافوري ويدفعون نظير دراسة طالب واحد (13) ألف دولار بجامعة “مأمون حميدة”، أي ما يعادل (130) مليون في السنة، فهؤلاء يدفعون (85) جنيهاً نظير المياه التي يستهلكونها في الشهر.. وهؤلاء يشربون من المياه المعدنية القادمة من مصانع “أسامة داؤود” و”حسن بشير” ويستخدمون مياه (الحنفيات) للغسيل وري أشجار الزينة وحدائق المنزل، ولكنهم يثورون ويملأون الدنيا ضجيجاً، لأن أسعار المياه قد ارتفعت لـ(85) جنيهاً في الشهر.. ولا يشعر هؤلاء بالمائة وثلاثين مليوناً من الجنيهات التي تدفع رسوم دراسة لـ”سمر” بجامعة “مأمون حميدة”، ومائة وثلاثين مليون أخرى تدفع لـ”هيثم” نظير دراسة الطب بأوكرانيا أو تركيا.. بينما هناك أسرة بكاملها لم ينفق عليها الـ(130) مليون منذ ميلادها وحتى غروب شمسها ومواراتها الثرى.
المواطنون الذين يدفعون مبلغ (20) جنيهاً لبرميل الماء الواحد في صقع الجمل وعديلة، ينتجون الصمغ العربي ويزرعون الفول السوداني والكركدي، ويربون الأغنام التي يأكل لحمها أهل المدن بأسعار زهيدة.. وبرميل الماء تعيش عليه الأسرة ليوم كامل.. وفي نهاية الشهر يدفع رب الأسرة (600) جنيه فاتورة مياه شهرية راضياً.. وشاكراً وحامداً، ولو سألته عن لونه السياسي يقول لك مؤتمر وطني مع “البشير”، قلباً وقالباً.. والثائرون من سكان المدن على زيادة تبدو منطقية جداً، إذا استطاعت حكومة الجنرال “عبد الرحيم” توفير المياه في فصل الصيف واحتياجات السودانيين من المياه في فصل الصيف، تتضاعف سواء في الريف أو المدن، ولكن حكومة الخرطوم يتشابه سلوكها والحكومة المركزية بإنكار الحقائق.. حتى والي الخرطوم الذي تحدث للصحافيين (الأحد) الماضي.. قال كل شيء ولكنه (خاف) من إعلان زيادة منطقية جداً في تعريفة المياه، و(معقولة) بالنظر للزيادة في كل شيء إلا قيمة الإنسان تناقصت في هذا البلد.. فلماذا يثور أهل المدن على النعمة التي هم فيها.. بينما يصمت أهل الريف على جحيم ولظى الحياة.. حينما كانت الرغيفة في زالنجي بجنيه، كانت أربع رغيفات في الخرطوم بجنيه واحد.. وتبعاً للزيادة الجديدة.. وارتفاع الأسعار فإن الرغيفة في تلك الأطراف يتوقع ارتفاع سعرها لجنيهين.
أما برميل الماء في الخرطوم الطرفية، في أحياء مثل نيفاشا وقبر الكلب.. وزقلونا، فيبلغ (5) جنيهات تذهب لسيد الكارو، وتصل فاتورة المياه لمواطنين يقطنون عشوائياً في الخرطوم لـ(150) جنيهاً في الشهر، وأحياناً (300) جنيه.. وناس العمارات السوامق والأسماء الأجنبية، يحتجون على مبلغ (85) جنيهاً.. إنها دولة اختلال ميزان العدل الاجتماعي.