خربشات الجمعة
(1)
{ في الترحال والأسفار عوالم من الدهشة وتجديد الطاقات في النفوس والأبدان والترحال بحثاً عن المفقود وعصي المنال يذهب بالقضية السودانية هذا الصباح إلى العاصمة الألمانية “برلين” في سياق تطواف قضايا السودان ،على مدن العالم وعواصم الدنيا، بعد أن عجز السودانيون عن احتمال بعضهم البعض، وضاقت أرض المليون ميل بعدد ثلاثين مليون نسمة.. فانشطرت ثلث الأرض وانقسم ربع الشعب وما تبقى منهم لم تتسع الأرض ولا النفوس لاقتسام موارد شحيحة وسلطة بائسة.. لم تتنقل قضية من قضايا العالم بين العواصم والمدن مثلما تتنقل القضية السودانية، بما في ذلك القضية الفلسطينية التي تنافس القضية السودانية في العراقة.. حيث اندلعت حرب فلسطين عام 1948م وبعد ست سنوات اندلعت حرب السودان، بتمرد توريت 1955.. ونجحت الإرادة الدولية في فرض اتفاق بالعاصمة النرويجية “أوسلو” عرف بسلام الاستسلام، كما فرضت الإرادة الدولية اتفاق نيفاشا، الذي جعل جنوب السودان يذهب لسبيله.. وتبقت الحرب مشتعلة جنوباً وشمالاً.. لم تبقَ عاصمة في الدنيا ولا مدينة إلا غشيتها القضية السودانية.. لم يبدأ تطواف قضية السودان بـ”أديس أبابا”، التي شهدت أول اتفاق بين المتمردين الجنوبيين، أو الثوار عام 1972 ، ومنذ ذلك الحين وحتى اليوم عقدت في “أديس أبابا” أكثر من خمسين جولة من المفاوضات وجميعها انتهت للفشل.. ثم ذهبت القضية لعاصمة نيجيريا “أبوجا”.. وطافت على “هراري” بدولة زمبابوي، و(مشت) في العصريات إلى “دار السلام” في محاولة لاستلهام روح “جوليوس نايريري.. ثم كان لـ”القاهرة” نصيب خاصة ،بين الفرقاء من الشماليين لوحدهم.. ولم تنسَ “إنجمينا” عاصمة تشاد نصيبها من القضية السودانية.. وحينما شعرت دولة جيبوتي أن القضية السودانية متاحة و(مشاعة) ،ولكل رئيس في العالم نصيب منها.. أصبحت جيبوتي نفسها وسيطاً بين الفرقاء.. ولا ننسى بالطبع “أسمرا” التي حينما عقدت فصائل المعارضة مؤتمراً أسمته بمؤتمر أسمرا للقضايا المصيرية.. خرج من صف المعارضين مثقف كبير وسياسي مبصر بعقله وقلبه وقال “أبو القاسم حاج حمد” قولته شديدة الوطأة على من ألقى السمع وهو شهيد “اليوم شعرت بأن بلادي قد أصبحت يتيمة بلا أب ولا أم”.
{ كيف لا تصبح بلادنا يتيمة منذ ذلك الحين وحتى اليوم ،حيث تهبط الطائرات في بلادنا . ألمانيا التي خرجت للدنيا في السنوات الأخيرة بإستراتيجية جديدة لعلاقاتها الخارجية.. تعتزم منافسة الولايات المتحدة وبريطانيا .ولم تجد ألمانيا حقلاً (لتجريب) قدرتها على إطفاء بؤر النزاعات إلا القضية السودانية لتصبح اليوم وسيطاً مساعداً لـ”ثابو أمبيكي” الذي نذر بقية حياته لإطفاء بؤر النزاعات ،ولكنه اختار بؤرة نزاع لن تنطفئ.. ولن تذكر.
{ الذين يلتقون اليوم في “برلين” ، لابد ان يتذكروا إن ألمانيا التي تستضيفهم كانت دولتين شرقية وغربية.. وبينهما حائط صد، شيدوه في سنوات الخصام.. ولكنهم أدركوا استحالة العيش ،كلا لوحده.. فاتحدت الدولتان وتم هدم سور برلين ،وانتهت منظمة متطرفة مثل (بادر ماينهوف) إلى التلاشي والاضمحلال.. مأساة السودانيين في عجزهم عن حل مشكلاتهم!! ورفضهم التعايش وتقاسم السلطة والموارد.. المفاوضات التي أطلق عليها غير الرسمية ،هي (ونسة) بين الفرقاء في قضايا لا تستحق التفاوض..
كل العالم تجاوز ما نحن فيه قابعون من أزمات.. أدركت قيادات الشعوب والأمم أن الحروب لا تلد إلا المآسي والجروح.. والتصدعات.. ولكن السودانيين يظنون وبعض الظن (غفلة).. أن الحرب هي الطريق إلى المجد والرفاهية.. وأن السلطة غاية في ذاتها ،ومن أجلها (تسترخص) الدماء ، وفي سبيلها يمكن أن (يطأ) السياسي بحذائه جماجم الأطفال وأشلاء الضحايا..
(2)
{ بعد غدٍ الأحد ينفض سامر (ونسة) برلين.. وقد تصدر تصريحات خادعة من الأطراف بأن الجولة ناجحة.. مما يغري الألمان بعقد جلسة (ونسة) أخرى في “فرانكفورت” أو أي منطقة أخرى.. وتعود وفود التفاوض وهي تمشي الهوينى ،فرحاً بالفشل ولا ينتابها إحساس بأنات الجرحى في الجحور والكهوف.. ولا مسؤولية ، وقد (عزت) قطعة الخبز الحافي وأصبحت الرغيفة أجمل من حسناوات المدينة.. وتفشت جراء الحرب أمراض تنهش في لحم المجتمع.
تظل الخلافات حول قضايا ليست محل تشاحن وتباغض.. حاملو السلاح يرفعون شعار إسقاط النظام ورمي السلطة التي تفاوضهم في النيل.. استلهاماً لشعارات المقاومة العربية، وخطب “عبد الناصر” التي كانت تتوعد برمي إسرائيل في البحر، قبل أن ترمي إسرائيل العرب في مخيمات صبرا وشاتيلا.. وتمني المعارضة المسلحة نفسها باجتياح “الخرطوم” في رابعة النهار الأغر.. بينما المعركة الآن في طروجي وخسار مريسة في دارفور.. والحكومة ترفع لاءات ثلاث : لا مشاركة في السلطة ولا فترة انتقالية ولا عودة لنيفاشا.. ولكن في (الونسة) غير الرسمية لا يجد المتحاورون حرجاً في القبول بكل شيء.. وإبداء المرونة.. وتبادل الابتسامات.. ولكن ساعة الجد والإقبال على توقيع الاتفاقيات.. يعود كل طرف إلى ثوابته ومشروعه في انتظار عمليات الصيف الذي يعقبه الخريف ثم الشتاء والصيف (والحال ياهو نفس الحال) ،وحينما تستيأس برلين من الفرقاء السودانيين تفتح الباب لمبادرة تقودها جمهورية (جزر القمر) وهي الدولة الوحيدة ، التي لم تجرب حظها في القضية السودانية.. ربما يكتب الله على يدها الخير.. وتنجح فيما فشلت فيه أثيوبيا وكينيا ويوغندا وتشاد وأمريكا وتنزانيا وجيبوتي ومصر وقطر والإمارات وروسيا والصين وسويسرا وبريطانيا وفرنسا.. كل هذه البلدان كانت لها مبادرات لحل القضية السودانية واليوم تجرب ألمانيا حظوظها من خلال (ونسة) تسمى مفاوضات غير رسمية.
(3)
“دبي” ما عادت فقط مدينة الأحلام التجارية.. والثراء والمال والسياحة والانفتاح.. “دبي” ليست مدينة أوربية في قلب العالم العربي.. ولكنها أقبلت في السنوات الأخيرة على الثقافة والأدب والفكر والاستنارة.. وهي تصدر كتباً ثقافية توزع مجاناً مع مجلة دبي الثقافية والآن في المكتبات ، وليست الأكشاك التي تبيع الكتاب إلى جوار السجائر والتمباك.. عناوين لمثقفين عرب مثل كتاب (فضاء الغبار الطلع) لـ”أدونيس”.. وكتاب (الرواية والاستنارة) لـ”جابر عصفور”.. و(مرايا النخل والصحراء) لدكتور “عبد العزيز المقالح” مدير جامعة صنعاء السابق الذي تم تكفيره من قبل الظلاميين.. و(بابل الشعر) لـ”أحمد عبد المعطي حجازي”.. ونشرت لـ”صلاح أحمد إبراهيم” (بوق العاج) اعترافاً بشاعريته ومكانته.. وكان ذلك بمثابة تكريم لأديب لم تكرمه بلاده حتى اليوم.. وفي معرض “الخرطوم” للكتاب الأخير يذهب التكريم لمخضرمة سياسية “بدرية سليمان”، بدلاً عن “صلاح”، الذي لو لم يكتب إلا مرثية لوممبا لكفاه مقاماً .وهو يقول:
هل سمعتم آخر الليل، وقد ران على الناس الوسن
وهل سمعتم سنة السكين في متن المسن
ورأيتم ضاوياً عان وحيد
عاري المنكبين في رسغية أنياب الحديد
وآخر الليل غفا
والجراح الفاغرات الشدق كل شبر في البدن
هدأ الأحياء إلاها، وقد ران على الناس الوسن
شكراً دبي الثقافية.. ورحم الله “صلاح أحمد إبراهيم” ،والدعاء للوطن بالشفاء من مرض تطاول.. وكل جمعة والجميع بخير.