اندثار حركة
{ حتى وقت قريب كان بعض الناس يعتقدون بصحة الخطاب الحكومي القائل إن حركة العدل والمساواة تمثل الجناح العسكري لحزب المؤتمر الشعبي.. وإنها (تأتمر) بما يقوله قادتها وإن د. “علي الحاج” هو المحرك الحقيقي لتمرد “دارفور” والمسؤول الأول عنه.. كل تلك المزاعم أثبتت خطلها.. وأنها كانت جزءاً من الدعاية التي تبثها الحكومة للنيل من ألد خصومها (المؤتمر الشعبي) في زمن ما.. وفي خضم ذلك المناخ .. التقيت صدفة في مطار (فينا) بالدكتور “خليل إبراهيم”.. كنت عائداً من “روسيا” لـ”الخرطوم”.. و”خليل” في طريقه لـ”تركيا”.. سألته عن صلته بالمؤتمر الشعبي .. وهل إذا تم اتفاق مع الحكومة في يوم ما ستتم أولاً المطالبة بإطلاق سراح “الترابي” وقيادات الشعبي المعتقلين.. ضحك د.”خليل”.. وقال هل تعتقد أننا نقاتل إنابة عن سياسيين جالسين في منازلهم بـ”الخرطوم”؟!.. وإذا كنت مقتنعاً بجدوى معارضة “الترابي” ما الذي يحملني لحياة الرهق والقتال في جبال ورمال وأودية “دارفور”.. ولما قال “الترابي” إن مشكلة “دارفور” يمكن حلها في ساعات، ظن البعض أن هاتفاً من المنشية سيجعل “خليل” يرمي بسلاحه ويهرع لـ”الخرطوم” حافياً استجابة لتوجيهات “الترابي”.
المؤتمر الشعبي في خضم معركته مع المؤتمر الوطني كان يلمح لقدراته العسكرية وامتلاكه لآليات من شأنها اقتلاع النظام من جذوره.. والمؤتمر الوطني صدق تلك الفزاعة حتى كذبت الأيام ما كان خافياً وأثبتت حركة العدل والمساواة أنها تنطلق من أرضية غير تلك التي انطلق منها الإسلاميون في المعسكرين (الوطني والشعبي) .
وخلال مفاوضات “أديس أبابا” الأخيرة كان “أحمد تقد” لسان رئيس وفد حركة العدل والمساواة (غريباً) عن جميع الوفود.. بعيداً جداً عن الوفد الحكومي.. وأبعد منه عن “مناوي” و”ياسر عرمان” .. و”تُقُد” لم ينضم يوماً للحركة الإسلامية، وظل معارضاً لها حتى حينما كان د.”خليل” وزيراً في مفاصلها.. و”جبريل” قابضاً على خزائن أموالها، وإلى القرب من “أحمد تقد” لسان الزميل الصحافي “سيد شريف جار النبي” متحدثاً عن حركة العدل والمساواة، و”شريف جار النبي” شاب دون الثلاثين عاماً تقدمي في رؤيته لا يمت بصلة للإسلاميين منذ سنوات الجامعة.
وقد حملت أنباء الأمس خبراً عن انشقاق جديد في صفوف حركة العدل يقوده “منصور أرباب”، أحد أركان الحركة الرئيسية وثاني شخصية بعد د.”خليل” ساهم في التأسيس وحملها في أحضانه حتى ترعرعت ثم ذبلت واندثرت وبلغت الآن مرحلة الشيخوخة والموت السريري.. و”منصور أرباب” من غرب “دارفور”، من أهلنا “المساليت”، عرف بالدهاء والصرامة وبعد النظر والوفاء النادر للراحل “خليل إبراهيم”، وبخروجه من العدل والمساواة يستطيع المراقب لأوضاع تلك الحركة، الإقرار بحقيقة الموت المعلن لها، وقد انفض من حولها القيادات التي كانت تشكل عظمها ولحمها.. وقد تناسلت الفصائل التي تحمل اسم العدل والمساواة من جماعة “بخيت دبجو”.. وجماعة “أبو ريش” وآخرين.. عادوا ببريق إعلامي كثيف واختفوا في زحام “الخرطوم” حتى بات متعذراً إحصاء عدد الحركات التي تحمل اسم العدل والمساواة في قاعة الصداقة حيث الحوار الوطني .. وهناك قيادات آثرت النأي بنفسها عن القتال والمعترك السياسي واختارت الخلاص الذاتي باللجوء السياسي لبلدان الغرب البارد بدلاً عن صيف “السودان” الساخن.. وقد أصبح “سليمان صندل حقار” مقيماً في السويد.. ود.”هارون عبد الحميد” موظفاً في “قطر”.. و”أحمد آدم بخيت” لاجئاً في “مصر”.. ود.”جبريل إبراهيم” وحده حائراً ماذا يفعل وقد خسر آخر معاركه في منطقة (النخارة) على أيدي قوات الدعم السريع.. ولم يتبقَ لدكتور “جبريل” إلا ذكريات عن ماضي حركة مسلحة خاضت عملية مجنونة، فدخلت “أم درمان” والشمس في كبد السماء.. ومن هنا بدأت نهايتها، تصدعات وانشقاقات وهزائم حتى لقي قائدها مصرعه لتدفن معه أحلامه الثورية وتموت فكرته، وتتلاشى الآن حركة العدل والمساواة، وتبقى ذكريات في مخيلة قادتها يجترونها في الأمسيات مثلما يجتر قادة الفصائل الفلسطينية المقاومة للاحتلال سابقاً، مغامرات الأمس قبل أن تقبر المقاومة تحت طاولات اتفاقية “أوسلو”.