عودة طه
و(ينفث) “طه” ما في صدره غضباً، وتهتز المدينة والبيادر والقرى مع كل حرفٍ خرج من جوفٍ صمَتَ كثيراً وسجنته الدولة والحكومة بقيودها وسلاسلها وألجمت لسانه عن الإفصاح لسنوات، حتى قال المراقب لمنابر السياسة إنها جفت واعتلاها الضمور واندحرت اللغة الرصينة إلى الوراء وغربت شموس القادة الخطباء إلى الأبد وبزغت صباحات قادة يفعلون ولا يفصحون.
{ “علي عثمان محمد طه” من صفوة السودانيين معرفياً ومن عامة الشعب (طبقياً) نشأ في الخرطوم بمشاعر ريفي قادته خطاه إلى مدينة. اشتد عوده في جامعة الخرطوم حينما كانت هي الجامعة للصفوة مثل جامعات الإنجليز فصار “علي عثمان” (نخبوياً) في فكره ولسانه، ولكنه لم يلذ بأبراج عالية ينظر منها للناس كما كان ينظر “بلند الحيدري” لبغداد وسكانها.. وتأمل “طه” في مستقبل وطن وأمة فاختار مبكراً الانتماء لحركة الصفوة الإسلامية حينذاك.. ليضع رهانه على تنظيم صغير.. ولم يهِم الرجل في أودية التأمل بعيداً عن الواقعية في الممارسة، ولم تشغله أعمال الفكر والقراءة والاطلاع عن العمل الدؤوب المضني لتحقيق الأهداف.
{ وما بين جامعة الخرطوم وقصر “غردون” تجاوز “علي عثمان محمد طه” دروباً شائكة وسار عن محن وأشواك ودموع وأحزان، حتى بلغت حركته عشية عودته إلى المنابر يوم (السبت) السابع عشر من نوفمبر عافية جعلتها مثالاً وقدوة لآخرين توافدوا على الخرطوم من بلادٍ دخلها الإسلام بالسيف وأواصر القبلية والعصبة الشعوبية، بينما السودان نسيجٌ وحده تغلغل الإسلام في أرضه، ولم تُرق قطرة دم واحدة.
{ صاغ “علي عثمان محمد طه” في قالب مؤثر خطبته ليلة (السبت) التي تعني للسودانيين في التاريخ ذكرى “إبراهيم عبود” الذي سطا على الحكم في غسق الليل، وحينما تنحى تحت أزيز أصوات الجماهير كتب التاريخ ميلاد الحركة الإسلامية لتبلغ رشدها في الثمانينيات وتنال السلطة، وتسعى الآن لتعود بعد سنوات من غياب اختارته هي لنفسها.. وميلاد جديد بخيارها وطوعها.. ولكن عبارات “طه” المغسولة بماء النهر.. والدموع التي تهاطلت كالمُزن في القاعات الأنيقة أعادت للمنابر رجالها، وللحركة الإسلامية بريقها، وللكلمة سحرها، وللقيادات ماضياً وحاضراً تجدد!!..
{ عبقرية الخطابة والفصاحة والتأثير على المتلقي التي بلغها “علي عثمان” وضعته في مقاماً مثل مقام ( محمد أحمد محجوب) في الإبانة والإفصاح، و”المحجوب” و”طه” عبقريان كبيران في مسيرة السياسة السودانية، والمقارنة بينهما رغم فواصل التاريخ قد تأتي لصالح الأول أو الثاني، ولكن (المحجوب) في علياء عليين، و”عثمان” الآن يخرج من جديد في ثوب يسر الناظرين.. وقد اعتقلت حروف ومحددات خطابه الأول قبل ثلاثة أيام قُدرات الرجل، وحينما تحرر “طه” من الأوراق وما تعده السكرتارية حلَّق (طليقاً)، بثَّ الأمل و”أكسجين” المقاومة في نفوس كادت تنكسر.
{ عاد “علي عثمان محمد طه” فتى السبعينيات والثمانينيات في مقرن النيلين، ومؤتمر الحركة الإسلامية يطوي آخر أوراقه، وفي المقرن:
ما أحلى ساعات اللقاء
في الشاطئ قرب الملتقى
أنا والحبيب عند الغروب..
شكراً “علي عثمان محمد طه” على خطبة العودة والميلاد الثاني.