الوالي الغالي
حينما خلع اللواء ركن “صلاح الدين علي الغالي تاج الدين” بزته العسكرية.. وضع كاكي أخضر اللون.. عليه علامات (صقر ومقص) وارتدى جلباباً أبيض.. وأطلق لحيته لم يتحسر على القرار الذي فرض عليه.. ولم تحدثه نفسه بأن يصبح قائداً عاماً للجيش أو رئيساً للأركان، تلك مقامات يتوق إليها كل من انتسب للقوات المسلحة أو حتى التفكير في السلطة، لأن كل ضابط تخرج في الكلية الحربية في رأسه (انقلاب).. في ذلك الحين ما كان يبلغ رتبة اللواء إلا من تسلح بالعزيمة والصبر.. وخاض غمار العسكرية من بوابة (عرين الأبطال ومصنع الرجال) إلى كل الجنوب والشمال.. والشرق والغرب.
ضحى “صلاح علي الغالي” بمستقبله في القوات المسلحة نزولاَ لرغبات زعماء العشيرة الذين فقدوا الناظر “علي الغالي” ولم يجدوا من هو أهل لقيادة العشيرة.. كفاءة وحسن تدبر وفطنة وحكمة إلا في “صلاح” و”صلاح” يؤدي واجبه الوطني في خدمة القوات المسلحة.. لم يعتبر الرجل نزع البزة العسكرية تضحية أو يمتن على أهله، وقال (أي شرف أكبر من قيادة قبيلة الهبانية في السودان).
توالت على البلاد المحن والمصائب والصعاب، واللواء “صلاح الدين الغالي” في ركن قصي من البلاد مقيم في بلدة (برام الكلكة) ويقولون إن إرثهم الشعبي (بلاد الله ثلاثة: مكة العزاها الله، وتونس الخضراء، والحديبة أم الديار، والكلكة) لست أدري كيف مسحت برام راحتيها وغسلت الهبانيات الوجوه الصبيحة صباح أمس، وقد نعى الناعي “ًصلاح الغالي” ورحيله عن الدنيا بعد صراع قصير مع المرض!! ليغيب نجم النطح، والحر علينا يشتد وصيفنا قصر ليلو ونهارو امتد.. ذرفت دارفور الدموع وهي أصلاً دموعها لا تكف عن الهملان.. وفاجعة الموت المعلن للناظر “الغالي” تضيف لمآسي الوطن المكلوم جرحاً جديداً في جسد تكاثرت قروحه وتنامت مواجعه.. وبرام عاصمة الهبانية تبكي دموع الفراق، وكانت برام تغني (لعيال الريافة البحبو النظافة.. الناظر الغالي مظلوم الما شافا).
في لجة أزمات دارفور وجراحاتها.. ومواجعها رفض الناظر بحكمته وحنكته ودهائه الخوض في لجة الفتنة، حتى حينما داهم التمرد برام الكلكة ودفعت أسرة “الغالي”، ما دفعت، مسح الراحل “صلاح” بيده على دمعته.. وتذكر حكمة الهبانية القديمة (النار يقتلها الهواء).. هبطت طائرة مروحية على متنها الوالي حينذاك الفريق “آدم حامد موسى” ووزير الدولة حينها “أحمد محمد هارون” ورئيس أركان القوات المسلحة الفريق “عباس عربي”، وجراح المدينة غائرة والمستشفى يفيض بالجرحى.. والموت قد تناثر في كل مكان والدماء بللت الطرقات والنساء (ينتحبن) في أسى وحرقه وألم.. وكان طلب قيادات الهبانية للقيادة السياسية والعسكرية شحنات الأسلحة لرد الكرامة، وأخذ الثأر.. لكن الناظر “صلاح علي الغالي” أمسك بيد الشباب الثائر.. وأطفأ نيران الفتنة رغم أن القتيل الشهيد “عمر الغالي”، أقرب إليه من حبل الوريد.. قال “صلاح” لرئيس أركان الجيش أنا أرفض أخذ ثأرنا بيدنا.. فطالب الدولة بتعزيزات عسكرية تحفظ أمن الجميع!!
كان الناظر “صلاح علي الغالي” بحكمته وصبره ونفاذ بصيرته يعلم أن غضب أهله وفراستهم ستخدم التمرد وتأخذ بثأرها من “أركو مناوي”، ولكن جراح السلاح لا تشفي.. وحينما أسندت إليه الإمارة والولاية تكشفت معادن الرجل الأصلية.. لم ينهب أو يكتر الذهب ويشيد العمارات.. وتتراص السيارات أمام منزله.. جاء لنيالا البحير و(عينه مليانة) وخرج من الولاية نظيفاً شريفاً لأن مثل “صلاح الغالي” عملة نادرة في هذا الزمان!!
وطبعة أخيرة من كتاب الإدارة الأهلية ولكنها نفدت من الأسواق.. سياسي واقعي لا تفارق الابتسامة شفتيه.. عرفته أيام مؤتمر الأمن الشامل 1997م، رجل دولة على هدى وبصيرة يمشي.. ومن أجل دارفور يضحي.. حتى غربت شمس كانت في كبد السماء تضيء ظلام أخطائنا.. ليمضي “صلاح الغالي” لربه ويودعه الآلاف بالدموع والدعوات. اللهم أغفر لعبدك “صلاح علي الغالي” وأسكنه فسيح جناتك مع الصديقين والشهداء.