استباق الطوفان !

الحديث عن (إنجازات) الأمس .. لن يضيف للسلطة شيئا، ولن ينقذها من سيل الغضب .. خصوصا وأن تلك الإنجازات تبخرت كلها .. بل وتدهور الحال إلى الدرجة التي حاصرت المواطن حتى لم يتبق أمامه سوى أنفاسه .. التي ما زال يتحكم فيها دون حصار !
سيكون مضحكا أن يتحدث أحد عن سعر الدولار المنهار الذي أنقذته الإنقاذ حين مجيئها، وحال الدولار الآن لا يخفي على عدو أو صديق (!)، وسيكون مثارا للتندر أن يتكلم أحد عن الندرة التي دعت الناس سابقا للطوابير وبطاقات التموين، في حين أن كيلو السكر يباع الآن في بعض أجزاء العاصمة بسبعة جنيهات ونصف الجنيه !
الخطاب الذي قد يخفف الغضبة .. لا يمكن أن يمارس التعمية بأن الغضب أشعلته (الأجندة الخارجية)، أو أن (العملاء) من أبناء الوطن لا يريدون الخير لبلادهم ولذلك يرتهنون للأعداء !
الخطاب الأعقل، هو الإقرار الكامل بأن الغضبة سلوك تراكمي .. ظل ينمو وينمو بالممارسات الحكومية السياسية والاقتصادية الخاطئة، لتجيء الأعباء التي وقعت حاليا على ظهور الناس .. أكبر بكثير من احتمالهم. والخطاب الأعقل هو إلقاء تحية (التعظيم) للمواطن الذي صبر وصابر قرابة ربع قرن، وقدم التضحيات والشهداء في سبيل وحدة البلاد، ودفع بأبنائه ليكونوا وقودا لحروب دفاعا عن الأرض والعرض لا دفاعا عن الإنقاذ .. التي توهمت بأن الناس باتوا رهن إشارتها كالمنومين مغناطيسيا !
الناس ليسوا سذجا لينقادوا إلى (أجندة) لا تشبههم ولا يعرفونها، والناس لا يرمون بأيديهم للتهلكة والعنت والأذى بغيرما سبب، وحين يعبر إنسان عن غضبه، فلأنه قد أحس بلسعة المعاناة، دون تخريجات ساذجة لا تنتمي للواقع بأي صلة .
 ان (التفهم) الذي قالت السلطات أنها ستمارسه، سرعان ما تحول إلى أوامر بالقمع .. وهي بداية للسيناريوهات الأكثر رعبا .. لو يعلم أولو الألباب !
حان الآن وقت القرارات التي تحاصر النار، بالالتفات لكل بؤر الظلم واجتثاثها من الجذور، والبداية تكون من النهاية، أي بإلغاء الإجراءات الاقتصادية الظالمة الأخيرة، مع ابتكار وسائل أخرى، لن يعقم شباب السودان من أهل الاقتصاد عن ابتكارها .. بعيدا عن عرّابي الإنقاذ الذين استنفدوا خيالهم، ولم يعد لديهم ما يقدمون .
ثم إن دفن الرؤوس في الرمال لن يجدي .. فما يرهق الاقتصاد ليس الوظائف الدستورية والمخصصات المالية لوزراء الحكومة ومن لف لفهم، ولكن ـ من قبل ـ هي الفواتير العسكرية والأمنية التي يدفعها المواطن من قوته الشحيح، بسبب الحروب التي أرهقت الوطن، ومزقت وحدته .. وتسعى للانقضاض على بقيته الباقية بخطى لا تعرف التباطؤ !
ويبقى ـ أخيرا ـ المأزق السياسي، والذي لا يجب أن يكون التعامل معه بإذكاء نار المواجهات، فتلك وسيلة لا تقود إلا لمزيد من الأورام، ليبرز دور الحكمة والتجرد ونكران الذات، وفي تاريخنا السياسي الحديث .. سوابق إجرائية غنية بالتجارب التي تستحق الاقتداء، ومنها تجربة الفريق إبراهيم عبود، وقراراته التاريخية التي حاصرت الحريق قبل أن يقضي على الأخضر واليابس، ومنها تجربة سوار الذهب .. وفيها أكثر من عبرة ودرس !
إنه أوان الحكمة والعقل والرؤية الثاقبة .. قبل قدوم الطوفان !

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية