أكل مطاعم و(التيك أوي) يقضي على (صينية الغداء) ويفرق شمل الأسرة
ثمة تغيير كبير وملاحظ طرأ على الأسر التي انتفت فيها صفة (الممتدة) بعد أن تقلصت وانكمشت في تعاملاتها الحيوية وطغت عليها (النووية) حتى وإن كان عدد أفرادها كثر. ولعل سبب ذلك تفرقهم في مناحي الحياة بدواعٍ مختلفة سواء أكانت دراسة الأبناء وعملهم، أو انشغال رب الأسرة الأم كانت أو الأب، وسعيهم الدؤوب لهثاً وراء لقمة العيش وتأمين احتياجات الأسرة اليومية ناهيك عن تلك المستقبلية. فخروج عدد مقدر من أفراد الأسرة لساعات طويلة ضعضع من تمركزها وغابت طقوس كثيرة تمتع بها آباؤنا ردحاً من الزمان، ربما تمشياً مع إيقاع الحياة متسارع الخطى، ولعل غياب (صينية الغداء) التي كانت بمثابة منتدى جامع لأفرادها الذين يتعين عليهم الالتفاف حولها كفرض عين واجب التنفيذ، لعله أحد هذه المؤشرات التى تنبئ عن تبدل وتزعزع كيانها.
من خلال هذا الاستطلاع الذي أجرته (المجهر) على مجموعة من الأفراد، جاءت الإجابات متباينة كل حسب وجهة نظره، فإلى ما قال هؤلاء.
حسرة على الماضي
الحاجة “آمنة عبد الوهاب” تحسرت على أيام زمان، أيام (لمة) الأخوان والحبان، وزادت بقولها زمان (اللمة) ما كانت مقتصرة على ناس البيت براهم كان معانا الجيران، يشاركونا الزاد والونسة في أي ساعة من ساعات اليوم عبر النفاج، أما ناس البيت ديل ضروري جداً كان ما إتلاقينا في شاي الصباح جنب صاج الزلابية نتلاقى في (الغداء) بعد ما ننتظر الشغالين يجوا من بره، الحاج وأثنين من أولادي شغالين معاهو في السوق، اها ديل كان ما دخلوا البيت وصلوا العصر مافي زول بدخل ليهو لقمة في خشمو. ثم مضت بلهجة عامية محببة (هسي وين يا بتي للسندوتشات والوجبات السريعة الشايفاها عند أحفادي وأهلن يجروا قبلي وبحري)، وأردفت ضاحكة (كتلونا بالجوع).
رد علينا مندفعاً وكأنه كان في انتظار من (يهبشه) ليصب جام غضبه عليه، ولم يمنحنا حتى فرصة لإمتصاص غضبه وكبح جماح أنفاسه المتلاحقة، قال “صلاح جلال الدين” (موظف بنك) إنه يسكن مع الأسرة الكبيرة، يشاطر إخوته غرف وحيشان المنزل، وقد وصفها بـ(علب الصلصة) قال أيام صبانا كنا نشاهد والدنا يخرج في الصباح الباكر ويعود الثالثة ظهراً وقد تهدلت أياديه محملة بأطايب المأكولات، كنا ننتظره بفارق الصبر لنجتمع معه على الغداء، ويتحفنا بقصصه الرائعة والمواقف التي مرت به، وهو لا ينفك يحدثنا عن شجرة العائلة، حتى حفظناها عن ظهر قلب دون أن نملها. وما زلت أتذكر كيف كان يوفي بالتزامات المنزل من الألف إلى الياء، ويغدق علينا دونما كلل، كل هذا من راتبه المجزي وقتها عندما كان موظفاً بهيئة السكة الحديد، اليوم نجري جميعاً دون أن نوفق في إكمال احتياجات المنزل رغم تقسيمها فيما بيننا، أما أولادنا فليكن الله في عونهم، وختم وهو يهم للمغادرة هل تصدقي إنني لا التقى إخوتي لعدد من الأيام رغم اجتماعنا في منزل واحد، استطرد وهو يغادر أي زمن هذا الذي لا يلتقي فيه أفراد الأسرة وقد جمعهم منزل واحد!
إنتشار الكافتيريات شاهد عصر
السندوتشات و(التيك أوي) لهما الغلبة في الوجبات “فائزة السر” (موظفة) ولأنها وبحسب ما قالت تعمل هي وزوجها ما يضطرها للعودة في وقت متأخر فإنها وكسباً للوقت تلجأ في كثير من الأحيان لحمل وجبة الغداء جاهزة، وما يشجعها على ذلك عودة زوجها مساء لارتباطه بعمل إضافي، كما أن أطفالها يحبذون الأكل الجاهز، رغم أن “فائزة” اشتكت وتبرمت من تشتت أفراد أسرتها الصغيرة داخل المنزل واجتماعها بأطفالها عند استذكار دروسهم، إلا أنها تذرعت بالظروف والأوضاع الحالية التي أسهمت بقدر كبير في تشرد أفراد الأسرة وقضائهم شطراً مقدراً من الوقت خارج المنزل، ثم أردفت بقولها دونك المطاعم والكافتيريات التي تعج بمواطنين من مختلف الأعمار على مدار اليوم.
الأسرة واحدة من أهم النظم الاجتماعية، ولها أهدافها الاجتماعية والنفسية والتربوية والاقتصادية، ولكي يتم التواصل بينهم لابد أن ينسجم أفرادها مع بعضهم البعض، هكذا ابتدرت الأستاذة “ثريا الحاج” اختصاصية علم الاجتماع حديثها، مضيفة وعلى الوالدين مسؤولية كبيرة لتحقيق ذلك، بأن يديرا الأعباء الأسرية بحكمة، وأهمها على الإطلاق التربية والتنشئة بشكل صحيح، لذا عليهما أن يقوما بالمتابعة اللصيقة لهم ومعرفة احتياجاتهم وفق أعمارهم، ولتحقيق ذلك لابد من اجتماع الأسرة في أي من أوقات اليوم، وفي تقديري (الحديث لثريا) أن وجبة الغداء قد تكون هي الأنسب لمناقشة قضاياهم وهم يتبادلون الحديث ويتفقدون بعضهم البعض، ولابد أن يتخلل ذلك أجواء الحب والمرح ليكون بمثابة تحفيز لأي من أفرادها ليحكي عن ما يضايقه من مشكلات حتى يتسنى لهم الوقوف بجانبه، إضافة إلى إبداء الملاحظات من قبل الوالدين للأبناء في حالة ملاحظتهما لأمر غير طبيعي، ومن ثم التدخل اللازم من قبلهما متى ما استدعى ذلك.
موازنة اجتماعية
واستطردت “ثريا” أنه في الآونة الأخيرة تلاحظ إختفاء صينية الغداء وما عادت كل الأسر تلتزم بها، وذلك في تقديري لجملة أسباب منها الضغوط الاقتصادية التي ساهمت إلى حد كبير في ذلك، حيث أصبح الأب يمارس دوامين في اليزم لزيادة دخله وسد احتياجات الأسرة، لكن لابد من التوازن بين الالتزامات المادية والاجتماعية، وعلى الأب ألا يهمل أسرته ويحاول قدر المستطاع أن يضع برمجة لعمله تستند إلى التوازن والحكمة، خاصة إذا كانت الأم أيضاً تعمل، لذلك يجب على الأسر أن تضع في بالها أن تحسين الوضع الاقتصادي مهم، ولكن بموازنة حتى لا يضيع الأبناء. وهنالك سبب آخر وهو إنشغال الأسرة بوسائل الاتصال التي انتشرت بشكل كبير، وهناك نماذج يلتقون بواسطة مواقع التواصل الاجتماعي المختلفة في حالة تعذر وجودهم مع بعض، حتى لو كانوا يسكنون في بيت واحد بسبب إدمانهم لهذه المواقع، والطريف في الموضوع أنهم يحبذون التواصل مع أشخاص بعيدين وينسون أن لهم أهل وأشقاء وأبناء، وهذه آفة العصر.