دار أندوكا
ترقد على ذراعي وادي كجا وتتنفس هواءً منعشاً وتفوح منها رائحة التاريخ القديم والحديث، مدينة يغسلها نهر التسامح والود والحنان جمعت بين الثقافة الفرانكفونية والثقافة السودانية، هي آخر مدينة سودانية على الحدود يتداخل التشادي والسوداني، هي جزء من دارفور الإسلامية وجزء من شرق تشاد تفوح منها روائح العطور الباريسية وتتبختر في خيلاء عذوبة ماء وادي كجا وأزوم. هي أرض سلطنة المساليت القبيلة المبدعة وقد ولد من فخذها “محمد مفتاح الفيتوري” ذلك الشاعر الظاهرة التي جمعت ثلاثة أقطار عربية، الوالد من فزان بجنوب ليبيا والأم من الجنينة سليلة السلطان بحر الدين والنشأة في الإسكندرية بالقرب من مرقد سيدي “المرسي أبو العباس”، وبذلك جمع “الفيتوري” بين الصحراء والسافنا والبحر، هو مثل مادلينا التي صاغها شعراً “محمد سعد دياب” عن حسناء إثيوبية تدعي “مادلينا”.
مادلينا إلام سليلة أمهرا والوالد من قلب أثينا، ودار مساليت أرض إبداع وقد غرست الطبيعة الساحرة في مسام جسد المدينة جينات الشعر والإبداع والحكمة والفروسية. وكان خل الخصال الطيبة من نبع إنسان أرض المساليت خرج للدنيا من رحم الجنينة الولود المبدع الأديب والروائي والقاص د. “أحمد الطيب زين العابدين” الذي لو لم يكتب في عمره القصير إلا رواية دروب قرماش لكفاه، والرواية تغوص في علم الظاهر وعلم الباطن وقد سبق هذا المبدع الدكتور “نصر حامد أبو زيد” صاحب نظرية التفسير التأويلي للقرآن الكريم، ولكن السودانيين في تواضعهم وفقرهم لا يرفعون شأن أنفسهم مثل الآخرين. ومن الجنينة أيضاً الناقد والمسرحي والكاتب الذي إضاعته السياسة د. “فضل الله أحمد عبد الله”، كما أضاعت السياسة على أهل السودان شاعراً في قامة “الشريف زين العابدين الهندي”. وقيل إن كثيراً من الأغنيات العاطفية التي تدغدغ الأحاسيس كتبها “الهندي” ونسبها لآخرين من الأقران. الجنينة أنجبت الشاعر “أبكر محمود شطة” المهاجر لبلاد الحديد والفودكا والجليد روسيا البيضاء. وأكبر من كل هذا وذاك سلطان المساليت الذي جمع في أحشاء مملكته كل الجنسيات والأعراق والأنساب والبطون، وشكل بذلك أول بذرة لدولة سودانية وطنية وقومية. وخاض سلطان المساليت معركة الدروت التي استبسل فيها رجال يدافعون عن وطنهم ودينهم والغزاة الفرنسيين الطامعين في ضم مملكة المساليت إلى الإمبراطورية الفرنسية في غرب أفريقيا. وقد وقف الإنجليز في الحياد السالب رغم التنافس على الأرض السودانية بين المستعمرين، وكتب السلطان “بحر الدين” تاريخ بطولات السودانيين في معركة الدروت التي دارت في تخوم الجنينة الجنوبية، حيث التلال المتناثرة التي تشكل عائقاً طبيعياً يحمي مدينة الجنينة من جهة الجنوب، مثلما يشكل وادي كجا حماية للمدينة من الشرق. ولكن السودانيين من أهل دارفور الذين يصطرعون اليوم على رماد السلطة لم يقاتلوا الجهل ولا المرض، ولكنهم خاضوا معارك ضد أنفسهم. وفي عام ألفين وثلاثة غرقت المنطقة التي تدعى ملي في أبشع الجرائم ضد الإنسانية، حينما حصدت البنادق (50) من السودانيين في ساعات بعض من القتلى كانوا ركعاً سجداً في بيوت الله، وكانت أحداث ملي من أسباب تعليق الرئيس لسلطات والي غرب دارفور حينذاك الراحل “إبراهيم يحيى عبد الرحمن” وإحالتها لصالح الجنرال “محمد مصطفى الدابي”، وهي شرارة احترقت بعدها قرى ومدن ولكن قيم التسامح المغروسة في إنسان دار مساليت جعلت المنطقة تغسل عينيها بماء التسامح وتمسح دموعها وهي على يقين بأن الدم حسابه يوم البعث، ولكن واجب الإنسان أن يعيش مع أخيه الإنسان في تواد ورحمة.
حينما توقفت سيارات ركب “التجاني سيسي” رئيس السلطة الإقليمية ومساعد الرئيس يوم (الأربعاء) بقرية ملي، كانت فتيات المساليت يرقصن رقصة الفرح بقدوم الضيف الكبير وقد نثرت العطور على ثياب القادمين لافتتاح المدرستين ومركز الشرطة. وقد تغنى الناس بفرح لعطاء ممدود من السلطة التي تبدلت والحكم الذي هو بين الناس دول، وكانت الفرحة في عيون الجنينة بالناس مثل فرحة العاشق الذي عاد إليه من يحبه قلبه ولكنه عاد واختفى.
جيتي ليك أيام قليلة وبيك بديت في الدنيا أفرح
تاري كان مقسوم تفوتي وتاني في أحزاني أسرح
وأنت لما تفوتي مني ما العمر بحالو روح
الجنينة تمنح زوارها شيئاً من ألق الماضي البعيد وكثيراً من الحنين والأمل في المستقبل اللسه سنينو طوال وكل جمعة والجميع بخير.