دنقر شوفو!!
هبطنا مدينة “ملكال” في منتصف شهر أبريل.. مدرج المطار نصفه ترابي والنصف الآخر أسفلت منذ زمان قديم.. والطائرة العسكرية العملاقة سي (130) تحلق بنا بارتفاع منخفض..تبدت أطراف مدينة “ملكال” كأسمال بالية وأكواخ من الصفيح يحيط بها قطعان من الماشية.. وقائد الطائرة العميد طيار “شريف زيدان” يستعرض مهارته الفائقة في الطيران في حيز محدود جداً .. والتمرد يسيطر على أطراف “ملكال”.. وحوادث إسقاط الطائرات بالقرب من المطار بصواريخ سام سبعة شاخصة.. انتابنا خوف ورعشة سرت في القلوب ولأول مرة تطأ أقدامنا مدينة “ملكال”.. ولكن الرقيب أول “إبراهيم أحمد عبد المنان” يبث في قلوبنا الطمأنينة بأن الطائرة الأمريكية سي (130) تعتبر عملاقة النقل للعمل في ظروف صعبة.. وتلك الطائرات من مخلفات العلاقات السودانية الأمريكية..أيام الصفا مع “جعفر نميري” وظلت تلك الطائرة في خدمة القوات المسلحة السودانية حتى عهد قريب.. لتنكسر أجنحتها وتستريح من التحليق في الفضاء بسبب نقص قطع الغيار والحصار الأمريكي.. في مطار “ملكال” تبدت مظاهر الحرب. مئات الجنود مدججين بالأسلحة الخفيفة والثقيلة.. ومنتصف شهر أبريل هو بداية فصل الرشاش في المناطق الاستوائية تهب الرياح من الجنوب الغربي إلى الشمال وتهطل الأمطار برفق.. ونحن في أول تجربة لإرساء قواعد للإعلام بأعالي النيل. فريق من المهندسين والإذاعيين والمحررين.. لتنفيذ قرارات وتوجيهات اللجنة السياسية التابعة لمجلس قيادة الثورة بإنشاء إذاعات في الأقاليم الجنوبية الثلاثة.. أعالي النيل وبحر الغزال والاستوائية وما كان لنا خيار في أي الأقاليم والمدن نختار خاصة ونحن مكلفون من قبل فرع التوجيه المعنوي بالقيادة العامة إعلاميون خاضعون لـ(ضبط وربط) القوات النظامية.. يقودنا العميد مهندس حينذاك “عباس عربي” رئيس أركان القوات المسلحة لاحقاً وسفير السودان في تشاد من بعد ذلك، وهو مهندس على قدر من الكفاءة وحسن الخلق والنجاعة والإخلاص والتفاني.. والأخ “بشارة الطيب أحمد بوش” من شمال دارفور منطقة أمبرو.. اختار لاحقاً الانضمام لحركة العدل والمساواة ثم نشب خلاف بينه ود.”خليل إبراهيم” دفعه لأحضان “عبد الواحد محمد نور”.. والمصور الفنان “محمد طاهر”.. والمخرج الإذاعي الكبير “عبد العزيز إبراهيم الطاهر”.. والمبدع “فيصل السيد”.. كانت “ملكال” تفيض بالمجاهدين من كتيبة الأهوال.. شباب وشيوخ يسهرون الليل في قراءة القرآن وتشق أناشيدهم صمت صباح المدينة..”فضل السيد أبو قصيصة”.. و”الضو الماحي”، الوالي الحالي لولاية القضارف.. و”عبد السلام كوكو” مدير مكتب منظمة الدعوة الإسلامية .أين هو الآن؟ وماذا فعلت به الأيام؟؟ ويقود المنطقة العسكرية اللواء “فيصل محمد سنادة”.. وركن الاستخبارات العقيد “فريد” من الضباط والمقاتلين في قيادة المنطقة الرائد “عادل عبد الحفيظ الزين الشايقي”، المترع بالأدب والشعر وهو قائدنا المباشر ومسؤول فرع التوجيه المعنوي.
كانت مهمتنا صعبة أو شبه مستحيلة.. إعادة تشغيل محطة الأقمار الصناعية.. وإنشاء إذاعة على الموجة (شورت ويف) ووضع خارطة برامجية موجهة تبشر بثورة الإنقاذ.. وأهدافها .. وتخاطب النوير والشلك بلغاتهم المحلية. في اليوم الثاني لوصولنا “ملكال”، اصطحبنا السيد أمين عام حكومة إقليم أعالي النيل “فاروق جاتكوث” في جولة تعريفية بأحياء مدينة “ملكال”. حي الجلابة الذي يقطنه التجار الشماليون القادمون من بحر أبيض وأم دوم والشمالية.. حي الملكية الذي يضم المتقاعدين من القوات النظامية.. حي الري المصري حيث مساكن المهندسين المصريين التي شيدت على طراز حديث.. وأحياء دنقر شوفو حيث أغلبية السكان من الشلك.. وحي (الواكات) ومفردها واك، وهو زريبة قطعان الأبقار التي يقدسها النيليون.. من الدينكا والشلك والنوير.. استقبلنا العقيد “قلواك دينق قرنق” حاكم الإقليم في منزله مرحباً بقدومنا إلى “ملكال”.
تم اختيار منزل حكومي يتبع لأمانة الحكومة بالقرب من ثكنة قائد المنطقة مطلاً على الشارع الرئيسي الذي يقسم المدينة إلى قطاعين شمالي وجنوبي.. ويصغي الجنوبيون إلى إذاعة الحركة الشعبية سراً. وحتى ضباط وجنود الجيش يستمعون إليها .. لكن المجاهدين من كتيبة الأهوال كانوا يطوفون على المدارس للمساعدة في الصيانة والترميم والتدريس والأطباء يتجهون إلى المستشفى لمساعدة المرضى والمساكين.. وكانت مهمتنا تقتضي تصوير الأحداث اليومية وإرسال شريط الكاميرا إلى الخرطوم.. وكتابة الأخبار وإرسالها لفرع التوجيه المعنوي لنشرها في صحيفة القوات المسلحة وبثها في وكالة السودان للأنباء.. وكان حينها قادة أركان قيادة الجيش يطوفون على مواقع القوات المتقدمة بينما يرابط المقدم “إبراهيم شمس الدين” بصفة شبه دائمة في الخطوط الأمامية.. يأتي إلينا في المساء والعميد “عباس عربي” ينسج من الأسلاك القديمة خطوطاً (لتوصيل الصورة والصوت) والعمال.. يترنمون بالأهازيج والأغنيات التي لا نعرف مفرداتها وهم يقومون بتركيب استديو البث الإذاعي.. “إبراهيم شمس الدين” شخصية نادرة.. سمو في الأخلاق.. رقة وعذوبة.. في منزلنا وقع اختيار أمين عام حكومة الولاية على امرأة نشطة اسمها “تريزا سايمون” لمساعدتنا في إعداد وجبات الطعام وغالبها من السمك.. كانت “تريزا” مغرمة بالإصغاء للأغاني الشمالية.. رغم ضعفها البائن في معرفة اللغة العربية.. وعندما تصنع الطعام أو تعمل في نظافة المنزل كانت “تريزا” تضع أشرطة الكاسيت على المسجل وترفع الصوت وترقص وتغني مع “عثمان حسين” لا وحبك وشجن.. وتطرب كثيراً لطنبور الشايقية.. وفي أحد الأيام حضرنا لتناول وجبة الإفطار.. وكان صوت القارئ الشيخ “صديق أحمد حمدون” يشق صمت المكان و”تريزا” في نشوة وفرح لما تسمع .. سألها الأخ “عادل عبد الحفيظ” تريزا( دا شنو البتسمعو ليهو دا) فقالت مالو ما كلام عرب؟ ضحكنا وسألنا الله أن يهديها للإسلام، وقد كان ذلك بعد فترة قصيرة.. وهي أصلاً من عبدة الإله الكجور (وريانو).
ولم تمضِ أيام حتى نطقت المدينة إذاعة تقول (هنا ملكال إذاعة صوت السلام)، وأقبل الناس على الإصغاء إليها .. وتم اختيار مجموعة من الشباب والشابات لإرساء قواعد الإعلام وإذاعة السلام والمحبة في أعالي النيل؟ كيف هي الآن وإلى أي مصير صارت .. وأين أولئك الأوفياء الأنقياء من زملاء الأيام الصعبة والمشقة وضنك العيش والتعب والأكل الكعب؟؟
لقد تفرق الشمل.. وتبدد الحلم .. وذهب الجنوب دولة مستقلة وبقية ذكريات تلك الأيام تدغدغ المشاعر.. وتطوف بالخاطر في الصباح والمساء.