"محمد عثمان وردي"… الفنان الثائر والثائر الفنان
في ذكرى رحيله الثالثة
الخرطوم – آيات مبارك
“وردي” (فنان أفريقيا الأول) أسكر قلوب العاشقين والهج ثناياها بـ(الحنينة السكرة)، (الحزن القديم)، (الهوى الأول)، (صدفة) و(أشوف في شخصك أحلامي)، لتأتي رائعة “الدوش” (بناديها بعزم كل زول يرتاح على ضحكة عيون فيها)، “الحلنقي” (أعز الناس)، لـ”إبراهيم الرشيد” (سليم الذوق)، (حبيناك من قلوبنا) و(ما في داعي) “كجراي”، واتكأ على الموروث السوداني بـ(القمر البوبا) و(أقدلي). “وردي” فنان عصي الكلمة والحضور، صار رمزاً شامخاً كالطود في وجه أعاصير المشهد الغنائي.
أمير الحسن
وسط هذا الطقس النوبي بالغ الخصوصية الروحية كان ميلاد “محمد عثمان صالح وردي” الشهير بـ”محمد وردي”، الذي ولد في 19 يوليو 1932 بأرض (المحس) بـ(جزيرة صواردة)، وبعد (10) سنوات من ميلاده فقد والده فرباه عمه ليعيش فتياً قوياً مليئاً بالتعاويذ النوبية، يحرك رأسه مع حفيف النخلات في الأعالي، وعند الأمسيات المقمرة يتبع النجمات أينما حلت، يصحو مع صوت الطيور التي تتبع مجرى النيل فيستيقظ مردداً خلفها الألحان الشجية، ذاهباً بذهنه إلى حيث الحياة هناك في البعيد خارج أرض الشمال، فرحل إلى مدينة “شندي” وعاد لمدينة “حلفا” لإكمال تعليمه بعد أن درس بـ(معهد تأهيل المعلمين)، عمل بالمدارس الوسطى ثم الثانوية العليا.. تدرج “وردي” في مدارج الحياة إلى أن أصبح معلماً، وزار العاصمة ممثلاً شمال السودان في مؤتمر تعليمي، بعدها انتقل للخرطوم مردداً الأغنيات العاطفية ومتأثراً بالفنان “عثمان حسين” إلى أن دخل الإذاعة السودانية في العام 1957م لإجازة صوته ولم تتوقف مقدراته عند هذا الحد، بل تم تشكيل لجنة خاصة من كبار الفنانين كـ”حسن عطية” و”عبد العزيز داؤود” لتصدر قراراً بضم “وردي” إلى فناني الفئة الأولى كمغنٍ محترف.
“وردي” (عندما يثور بحر الشمال)
فاقت مقدرات الفنان “محمد وردي” إطار عالمه ربما يعود ذلك إلى كمية القيم التي علقت بشخصيته من أرض الشمال، فنشأ ثورياً قوياً خصوصاً وأن الحركات الثورية والاشتراكية قد غزت العالم حينذاك فكان انحيازه الفكري واضحاً من خلال أغنياته، فعبر بصدق عن قضاياه وهمومه، خصوصاً وأن تهجير أهالي حلفا بسبب بناء السد العالي كان له بالغ الأثر في نفوس النوبيين، فكان “وردي” خصماً للرئيس “عبود” ومناضلاً ضد الحكم العسكري حتى أطاحت به ثورة أكتوبر لتصبح (باسمك الأخضر يا أكتوبر) عود ثقاب الأفكار الثورية، وهدأت ثورته قليلاً مع الرئيس “نميري” أملا في أن ينقشع الظلام، لكن هيهات.!! فأبت روحه التواقة للنضال أن تنتظر كثيراً وسرعان ما عاد والتحم مع قضايا شعبه ليصبح مرتاداً دائماً للمعتقلات السياسية آنذاك، لذلك صُبغت أغنياته بالنفحة الثورية، فجاءت (راية الاستقلال)، (يا شعباً لهبك ثوريتك)، (مساجينك) لـ”محجوب شريف”، وأغنيات الحنين للوطن رائعة “صلاح أحمد إبراهيم” (بنحب من بلدنا ما بره البلد) و(الحبيب العائد).
وااا اسفاي
عندما خرج “وردي” من السجن وفي أولى حفلاته كان الرئيس “نميري” حضوراً في إحداها أشار إليه “وردي” مغنياً ومجموعته قائلاً: (واا اسفاي)، وقد تم القبض عليه من قبل جهاز الأمن الذين ضحكوا قائلين: (نحن لم نقبض عليك وأنت على ظهر دبابة.. قبضنا عليك بسبب هذا العود).
علاقته بـالقائد “جون قرنق”
كان الزعيم الراحل “جون قرنق دي مبيور” على علاقة وطيدة بالفنان “وردي” مجاهراً بحبه، أما “وردي” فرغم حربه مع الزعماء إلا أنه يحمل حباً خاصاً الراحل “قرنق” وكان حزيناً جداً لانفصال الجنوب.
يا بلدي يا حبوب
وفي العام 1989م خرج من السودان ليعود بعد (13) عاماً في استقبال حاشد ضاقت به جنبات مطار الخرطوم، عاكساً مدى حب السودانيين له ليمنح درجة الدكتوراة الفخرية من (جامعة الخرطوم) تقديراً لمسيرته التي تعدت الـ(60) عاماً ولإنتاجه ما يقارب (300) أغنية، ثم بعد ذلك احتفل بيوبيله الذهبي في العام 2010م، وفي يوم السبت 18 فبراير وفي تمام الساعة العاشرة والنصف مساء ذهب عملاق الأغنية السودانية ملوحاً بإشارات الرحيل بعد عمر يناهز الـ(81) عاماً، ودفن بـ(مقابر فاروق) ليذهب حاملاً سر أكبر أسطورة غنائية على طول (النهر العظيم).