"الأمين" لم يرحل
{ حمله تفوقه ونبوغه لجامعة الخرطوم أيام مجدها.. وذيوع صيتها وبهاء وجودها.. وسموها بالجميلة المستحيلة.. وبرائعة الدوح وكامبردج السودان. في تلك الأيام كانت الجامعة لأبناء الغبش الفقراء القادمين من الأرياف البعيدة.. قبل أن يصبح التعليم في زماننا للأثرياء القادرين على دفع الملايين.. كانت كليات الطب والهندسة والاقتصاد للسودان الكبير، يتنافس الطلاب القادمون من الفاشر ورمبيك وكادقلي ومروي وبورتسودان بكدحهم وعرق جبينهم وقدراتهم ومواهبهم قبل أن تصبح أقاليم بكاملها، اليوم لا تنافس لكليات الطب والهندسة وكلية الاقتصاد بجامعة الخرطوم. ولد الطالب”الأمين الصادق” نابغاً.. ذكياً .. خلوقاً اصطف إلى تيار التجديد في الحركة السياسية بالجامعة.. شغف بحركة الإخوان الجمهوريين سياسياً لا عقائدياً .. وحينها كان الانتماء إلى التيار اليساري والتيار الجمهوري في الجامعة تعبيراً عن انتماء الإنسان لقوى الاستنارة ومناهضة الرجعية… ولكن “الأمين الصادق” الصوفي بأصله وخلقه وسلوكه خرج في صمت عن حركة الجمهوريين بعد نضوج فكره.. كان من بين النخبة التي اختارتها وزارة الصناعة لتنفيذ بعض المشروعات الهامة في عصر نهضة السبعينيات، واختطفته المملكة العربية السعودية التي كانت في بدايات نهضتها وتطورها.. تبحث عن الكفاءات النادرة أينما كانت .. و”الأمين الصادق” احتضن أسرته الصغيرة وعشيرته الكبيرة في حنو وحميمية وأبوية وعمق نظر.. ونفاذ فكرة.. ووضاء عزيمة ورقة إحساس وومضة خاطر. .عاش محنة فقد الوالد في ظروف مأسوية ولكنه أمضى على أشواك الأحزان كبيراً شامخاً.. اختار الخرطوم ملاذاً ومتكأً لتنشئة أسرة على قيم الفضيلة.. وكان يوم رحيل أسرته من تلك القرى المتناثرة في رمال كردفان يوماً حزيناً مفجعاً.. رسم ملامحه في دواخلنا ولم يُمحَ حتى اليوم.. أوجاع وآلام الصبا حملته ليصفح ويعفو ويمشي على الجراح الغائرة. بدفئها وصدرها الحنون جمعت والدته الراحلة الحاجة هجيتي (أم الأمين) طلاب العلم في الجامعات.. والمدارس الثانوية والباحثين عن الوظائف..والعمال في المصانع.. لا تميز بين من خرج من رحمها.. وما بين أبناء عشيرتها الأقربين والأبعدين. و”الأمين الصادق” ينفق من راتبه على المريض والطالب والمحروم.. منزل الأسرة في شمبات الحلة.. أو أم بدة السبيل كان بمثابة داخلية.. يقتسم الجميع لقمة الخبز.. بالعافية.. وطيب الخاطر وانشراح الصدر.. كان بيت “الأمين الصادق” مشرع الأبواب والنوافذ وبيوت غيره موصدة في وجوه القادمين من الأرياف إلا من كان ذا مال وحظوة وجاه.
في غربته الطويلة بالمملكة العربية السعودية كان قريبا ًمن حزب الأمة القومي.. وبعيداً عن طائفية الحزب. في ليالي المدينة المنورة صاغ مع المهندس “إبراهيم مادبو” أولى أوراق الإصلاح في حزب الأمة .. واتسمت علاقته بمبارك الفاضل بالمد والجزر.. القرب والبعد ..الشك والريبة حتى وهنت صلاته بحزب الأمة القومي.. ولو فتح د. “حامد البشير” خزائن أسرار الرسائل المتبادلة والأفكار التي كان الراحل “الأمين” يؤمن بها، لأصبحت مادة غنية تثري الساحة الثقافية بالكثير.. حينما عاد للسودان قبل أن تتخطفه يد المنون زرق “الأمين الصادق” الدمع السخي لحال وطنه السودان..كان في قوائم المحظورين من العودة للسودان لأن للرجل موقفاً وقضية.. ما كان “الأمين الصادق” من (يأكل مع زوجته) .. كان يستقبل العشرات يومياً في منزله القريب جداً من الحرم النبوي في المدينة المنورة.
حدق “الأمين الصادق” يوم عودته الأخيرة في وجه كردفان برمالها وجبالها.. وإنسانها .. وقادتها .. قال إن مولانا “أحمد هارون” رجل مختلف!1 استقبله “هارون” في قرية الطيبة ببشاشة.. والي يستقبل مواطناً كان معارضاً للإنقاذ.. وحتى تلك اللحظة ألم نقل لكم إن “هارون” من طينة أخرى.. وقيم (انقرضت) في سوقنا المحلي.. رقص “الأمين الصادق” النقارة والمردوع رغم سحابة الحزن العميق الذي تقرأ تفاصيله في قسمات وجهه الوضئ.
وحينما ذهبنا إلى محطة قطار الدبيبات ووقف بقامته السامقة وحدق في جهة الغرب.. ورمى ببصره نحو الشرق أنشد أبياتاً ربما تكون من أقوال “محمد المكي إبراهيم”
ها نحن تركنا عاصمة الإقليم
ودخلنا وادي الصبر
كل الأشياء هنا لا لمعة تعلوها
كل الأشياء لها لون القبر
الصبر.. الصبر.. الصبر
مات “الأمين الصادق عبد المنان” بعيداً في القريبة وقريباً من مسجد الحبيب المصطفى.. صلى على جثمانه إمام وخطيب المسجد النبوي.. وودع الدنيا.. قبل أن يعود للسودان .. ولكنه زرع في تراب الوطن أطباء نوابغ ومهندسين لا يجود الزمان بمثلهم.. وأسرة كبيرة ممتدة.. أطعمها بكدحه.. وسقاها بعرق جبينه.. واحتواها بذراعيه.. وغاب عن دنيانا والحزن يسكن دواخلنا، وتجربة “الأمين الصادق عبد المنان” في العصامية.. وحب الناس وزراعة الخير.. تضئ دياجر ظلمات الزمان الذي نعيش على حفر موجع من الحرمان.
وفي ذكرى غياب “الأمين” الأبدي نبعث إليه في مرقده هانئا ًوهو لا يسمعنا قول الشاعر “النور عثمان أبكر” في قصيدة الكفن الأخضر
ما الذي مات حملناه على غبن وتهنا
في ربوع تشبه الأرض الجليلة
ما الذي مات رمانا في سحيق من لحون
فجة الإيقاع دهليز مرايا
أهو النبض الأصيل
ضالع في التيه في جب الغبار
وبعض من غموض الشعر.. له دلالات بغموض الأشياء ألا رحم الله “الأمين” ود عبد المنان فارسنا الأعزل.