أخبار

حنين الشايقية (2)

الرقة والعذوبة والحنين الجارف في أشعار وأغاني الشايقية منبعها وملهمها نهر النيل ومنطقة المنحنى التي خرج من صلبها غالب شعراء الوطن وشعراء السودان الشمالي.. مثلما شكل عالم الصحراء بقسوته ورماله الذهبية وشظف العيش في جنباته دنياوات هام فيها أديب كبير مثل “إبراهيم الكوني” الذي ظلمته الجغرافيا من أن ينال صيتاً عالمياً، وانتماء “إبراهيم الكوني” لدولة ليبيا قد حرمه من الشهرة والذيوع كما حرم الليبيون من إبداع وفكر “الصادق النهيوم” حتى مات ورحل عن الدنيا وهو ما بين جبال الألب ونهر الدانوب.. ولو خرج أدب الشايقية من عباءة الشمال ولم يتأثر بتداعيات الصراعات العقيمة لأصبح هذا الأدب عالمياً.. وقد تغلغل المغني الشايقي في أوساط أفريقيا الغربية وأفريقيا الشرقية، والشايقية أقرب للمجموعة الثقافية من (العصبة العرقية).
نعم هناك عصبة قبيلة الشايقية، لكن قدر التسامح وخاصية استيعاب الآخر عند هؤلاء القوم جعل جماعات وافدة من غرب أفريقيا كالفلاتة والتكارنة تذوب خصائصهم الثقافية في خصائص الشايقية وجزء من عبدلاب حلفاية الملوك ومنطقة قرى (تشيقو) أي أصبحوا شايقية.. وقبل الانفصال كان تلفزيون السودان يبث من حين لآخر لمطرب من الدينكا أو النوير يردد أغنيات “النعام آدم” أين هو الآن.. وكيف صار تلك قصة أخرى ولو كنت في مقام من يقرر نيابة عن السودان ماذا نشاهد ولماذا نشاهد لأمرت ببث كل المنتوج الثقافي لإخوتنا من الجنوب ولقررت أن يبقى المهندس “جون ورقة” في وظيفته بالإذاعة وهو يشكل ثنائية مع “الرشيد بدوي عبيد” في نقل مباريات كرة القدم!!
طبيعة الأرض التي تحفها الرمال من جانبي نهر النيل والماء والنخيل.. والوجوه الحسنة غزت شرايين ومخيلة شعراء مثل “السر عثمان الطيب” بكثير من الفرح والجمال، فيما كتب من أشعار وتغنى بها مطربون من الشمال الوسط وحتى غرب السودان.. وحنين “السر” لوطنه الصغير والكبير ممزوج بحب الطبيعة والجمال في قوله:
عاد منادي الشوق ينادي داير أرجع لي بلادي
أحضن الحلوين وأغرد وأنسى آلامي وسهادي
أصلوا ما كان من مرادي يوم أبارح دار غادي
شوقي ليها ولي ضفافا ظهرها ونوره وعفافه
سلسبيل نيله البيجري من سنين خدر ضفافه
شوقي لي ذرات ترابه لي سهوله ولي هضابه
فاتنة في الزاندي دابا عنفوان القاش شبابه
راقصة في عبري رنة حلوة في وتر الربابه.
ورمزيات “السر عثمان الطيب” في أشعاره تلامس أشعار “محمد سعيد دفع الله” وهو مبدع وسيم بهي الطلعة حاضر البديهة.. وهؤلاء من شكلوا حضوراً في كل أرجاء الوطن يصغي إلى أشعارهم المغناة بائع الطماطم في سوق “زالنجي”.. وصاحب البوتيك الصغير في سوق “أبو جهل” في “الأبيض” وحاطب مساويك شجر الأراك في محطة القطار بسنكات. ويوماً كنت أطوف في سوق “ملكال” الكبير أيام الفترة الانتقالية أي قبل الانفصال وقد نال الجنوبيون حريتهم في الكلام وتقرير المصير.. وأن تسمع آذانهم من تحب.. يصدع مطرب شايقي بأغنية
حنينة يا ود أمي كيف أمسيت عليك مثل الطيور غنيت.
وهي مناجاة أم لابنها الذي خرج يبحث عن المال وكسب العيش الحلال في أرجاء المعمورة الواسعة. لكن أشواق وحنين الشايقية في رقتهم وعزوبتهم مهددة بالزوال وعواطفهم معرضة للجفاف وحنينهم إلى النضوب بفعل التكنولوجيا الحديثة من خدمة (الأسكاي بي) وخدمة الواتساب.. والفيس بوك وغيرها من مستحدثات العصر.. إضافة إلى الطرق الحديثة التي جعلت كل الشمالية ونهر النيل قرية واحدة.. الأسفلت من بيت لبيت والكهرباء من مزرعة لأخرى وحتى المطارات في مروي والآن تشيد مطار عطبرة.. كل ذلك خصم على الحنين والشوق القديم حينما كانت الأم تحن لأولادها الرصو الهديمات عدلو وركبوا اللواري وقبلوا)، الآن أصبحت الشمالية (رصو اللابتوبات عدلوا وركبوا التوسان وقبلوا) فأصبح مكان العراقي لابتوب.. ومكان اللواري توسان وأكسنت ولاندكروزر وقريباً فيراري وجيب أمريكي.. وفورد!!
وإذا كان الشايقية يجملون أمسيات السودان بالغناء الحنين والنغم الطروب فإن الحزن واليأس في شعر (الجعلي) “محمد المهدي المجذوب” قد طغى على الفرح. و”المجذوب” يقول في ديوانه الشرافة..
وحدي أعيش على بؤس ومغرمة
وأكتب الشعر ألواناً من الوجع
وما ندمت على ضوء ظفرت به
صبراً أنيساً ونجماً غير منتزع.
ما الذي يجعل الحزن الدفين يظلل أشعار “المجذوب” والفرح الطاغي والحسن والنغم الطروب يتدفق بين حنايا أشعار أرض المنحنى التي ألهمت شاعراً مثل “عبد الله محمد خير” ليقول:
الشوق للبلد لي بهجته وسمره
والشوق لي مقيلاً ضم ضل ثمره
الشوق لي حديثاً ضم ضل قمره
الشوق للبلد جابريتا وككره
كان الشوق يخفف والله يبري الجرح
مشتاق للأبى يفارق الفؤاد ذكره
مشتاق للعلى مشغول دوام فكره
مشتاق لصبح ديدن غناي شكره
و”عبد الله محمد خير” هو من أنظف المظلومين وشهداء (عنبر جودة) في مزرعة رجل البر والإحسان الشهير صاحب الأوقاف العديدة بولاية الخرطوم. وكتب “عبد الله محمد خير” حينذاك قصيدته الدامعة الحزينة باسم الضحايا الذين استهانت بهم الحكومة حينذاك فقال على لسانهم:
إنهم قوم من الفلاتة والبرقو
من أجل الخبز قد خرجوا
وفي جودة قد قتلوا.
نواصل

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية