كركاب كتال الكلاب
يخرج من بيته مع بزوغ الفجر يحمل أدوات الزراعة بعد أداء صلاة الصبح في منزله وقبل أن تحمل “خديجة” زوجته الوحيدة (براد الشاي) يضع سفة التمباك أسفل شفته ويستنشق (الصعوط) من علبة (النيفيا) التي خصصها لحفظ تمباكه منذ سنوات، يحرص “كركاب” على تمباكه كحرص الراعي على غنمه.. لا يهتم كثيراً بتفاصيل الشتاء والصيف والخريف.. منذ أن يعود من (البحر) في أواخر شهر مايو حيث يمضي “كركاب” أربعة أشهر ما بين محالج مرنجان في ود مدني.. ومصانع الزيوت في المناقل وصناعة الطوب الأحمر في سنار.. لجمع مئات الجنيهات وشراء ملابس جديدة لأطفاله وزوجته “خديجة” التي يحبها حد القداسة.. رغم السنوات التي تطاولت على زواجهما وإنجابها خمسة من البنين واثنتين من البنات لكنه حينما تضع أمامه صحن العصيدة وهو معروق الجبين يكدح في الزراعة يغني لها وتطرب في نفسها ولكنها تتظاهر بعدم الاهتمام بما يقوله “كركاب” لحبيبة عمره “خديجة”.
(أم قنيبرة حمارة الوكيل لا بتمشى لا بتشيل) تضحك “خديجة” والله (مموسخ مسخة) يقذف “كركاب” بسفه التمباك بعيداً ويغسل أطراف أصابعه بالماء ويهجم على صحن عصيدة الدخن بملاح اللوبيا في سعادة وفرح.. وزوجته “خديجة” (أم قنيبرة) تختفي في غابة العرديب والكتر والجيش المجاورة للمزرعة من أجل الاحتطاب وطفلها الصغير مربوط على ظهرها لا يصرخ إلا لحظة حاجته للرضاعة.. وتجمع “خديجة” (أم قنبيرة) أعواد الكتر الجافة وإذا وجدت حطب أبوليلة أو الطلح فحاجتها لمثل هذه الضروريات تقارب حاجة “كركاب” لعلبة التمباك.. ويمسك بالفأس ويهوى على الشجيرات الصغيرة التي نبتت في فصل الخريف بما يعرف بنظافة الأرض وتحضيرها لموسم الخريف الذي بدأت تطل بشائره فأشجار التبلدي أخذت تنبت أوراقها في الغصون وكذلك أثمرت أشجار (الحميض) والأطفال الصغار يجمعون ثمار الحميض بينما تستخدم أوراقه كسلطة يضاف إليها الفول (الدكوة).. و”كركاب” في نظافته لمزرعته يغني لنفسه (أنا كركاب مطرة بلا سحاب) (أنا التيس الذي طرد العجل) وزوجته “خديجة” أم قنيبرة تجمع الحطب من الغابة القريبة من أجل العصيدة ومن أجل الدخان وهي سعيدة بزوجها الذي حينما يفرغ من نظافة مزرعته يتفرغ إلى لعبة (ضالة) مع أقرانه من الرجال ومن هم دونه من الشباب. وفي إحدى سنوات دورات الجفاف والتصحر ونقص الأمطار جربت الأرض ولم يجد الناس ما يسد الرمق.. غادر القرية مبكراً الشباب نحو (البحر) أي السودان النيلي.. وبقى الشيب والنساء.. وفي موسم الخريف ضاقت الناس بالحياة.. ورفض التجار منح المزارعين الذرة حتى موسم الحصاد واشتد الجوع بأهل القرية والقرى وأخذ الرجال يتهمون النساء بالتبذير وإهدار الدقيق في صناعة العصيدة واتفق أهل القرية من الرجال على نزع صلاحيات صناعة العصيدة بزعم المحافظة على دقيق الذرة من إهداره.. فأخذ الرجال (يحملون) (المصاويط) ويقومون بإعداد الطعام بأنفسهم والنساء ينظرن بحسرة وألم للجوع الذي تفشى وسلبهم أهم ما عندهم من أسباب التملك على البيت والسيطرة إلا “كركاب” رفض أن ينزع من “زوجته” أم قنيبرة (المفاريك) و(المصاويط) مفردة (مصوط) طبعاً لكن “كركاب” أفهم زوجته بأنها عندما (ترحك) العيش في المرحاكة تهدر نصفه يتساقط حبات العيش على الأرض وقال لها منذ اليوم فإنني سأقوم بطحن العيش بنفسي في (المرحاكة)… ويجثو كركاب” على ركبتيه وهو يطحن الذرة ويغني.
سنة دي سنة صرما..
رجال عوين قلعوا البرمة
ناس أنحنا ربنا يسترنا
وهو يطحن الذرة بهمة ونشاط.. كل ذلك قبل أن يضرب الجفاف والتصحر ضربته الشهيرة في الثمانينيات والتي رفعت من شأن الرئيس الأمريكي “رونالد ريجان” وجعلت مغني أم كيكي في نجوع البقارة يغني للرئيس الأمريكي ويرفض العودة لدياره التي قهره فيها الجوع والفقر والعوز وقلة الغذاء.. كان مغني آلة أم كيكي يقول..
بلد أم كيكي بتنا موجايكي
أنا راحل لريجان الأمريكي..
وحينما هطلت الأمطار بغزارة في شهر يوليو وارتوت الأرض بالماء ونبتت الخضرة في الأرض أخذ أهل القرية يطمئنون للحصاد الوفير فأعادوا للناس مهنتهن في صناعة العصيدة.. وارتسمت الابتسامة في وجه “كركاب” مطرة بلا سحاب.. ومع يقين المزارعين بأن الجفاف والملح قد انصرم تناثرت الأفراح ودق (التيمان) على طبل النقارة وتغنت الفتيات.. وأشاح الفقر بوجهه عن “كركاب” وقريته الصغيرة.