أخبار

تابت.. وتابت!!

قبل أن تستقر الشمس في مرقدها وتتسلل خيوط الظلام من الشرق.. وتغمض الفاشر مقلتيها للنوم مبكراً.. والصيف بمناخه الحار والرياح التي تهب حيناً من الجنوب وطوراً من الشمال في منتصف شهر مايو.. طلب “بشارة” قهوة من حاجة “زينب” التي أخذت تجمع (عدت شغلها) لمغادرة موقف نيالا بعد كدح يوم طويل، لامرأة في عقدها الخامس تضفي على مقهاها ألقاً خاصاً بابتسامتها الدائمة، ولغة الفور المحببة لأهل المدينة.. كانت السيارة اللاندكروزر تقف شامخة وهي التي تحدت رمال اللعيت جار النبي وقوز عيال بخيت.. ووادي المقدم.. عبرت المسافة من الخرطوم إلى الفاشر في ثلاث ليالٍ سوياً.. وتستعد الآن لرحلة حتى مدينة نيالا البحير.. الصديق “بشارة الطيب أحمد بوش” من أبناء الزغاوة منطقة أم برو.. بيننا مودة وصداقة أسرية وحب عميق.. جمعتنا رحلات لجنوب السودان أيام اللجنة السياسية التابعة لمجلس قيادة الثورة.
ما بين ملكال ودنقر شوفو.. والناصر وما أدراك ما جرار السلام الذي عبر المسافة بين ملكال والناصر لإغاثة الجوعى من النوير المنشقين عن الحركة الشعبية بقيادة “مشار” ووعي الراحل “أحمد الرضي جابر”.. وفراسة الأخ “عبد المنعم” والمثابر “عبد السلام كوكو” أمين مكتب منظمة الدعوة الإسلامية.. وما بين الرحلة من الفاشر إلى نيالا ذكريات وأحلام.. وئدت وأشواق رحلت.. وأمنيات خابت.. ونحن من الفاشر الكبير نتجه إلى نيالا من خلال رحلة تمتد أولاً لديار البني حسين ودار قمر ومساليت.. يحدثني “بشارة الطيب” عن منطقة (تابت) وقضاء ساعات هناك لتناول وجبة العشاء، حيث المطاعم الصغيرة التي تقدم وجبات من لحوم الضأن والماعز و(الهبار).. ودعنا حاجة “زينب” وقد قالت (أبقوا عافية) وتسللت السيارة شمالاً.. والسائق “هاشم” من أبناء ديم المشايخة شمال سنار وحتى ذلك الحين ما كان السودانيون يهتمون كثيراً بالأنساب والقبائل.. والجهات مثلما هو الآن.. قرى صغيرة تنام في طمأنينة وسكون وراحة بال وعافية نفيسة من بينها قرية (تبرأ) التي أصبحت هي الأخرى في دفاتر المنظمات الطوعية، لما حاق بها من مأساة في شهر رمضان جعلت د.”غازي صلاح الدين” يزرف الدموع وقبل أن تجف دموعه يغادر المكان.. بعد ساعة ونصف من السير في دروب شمال دارفور.. توقفت السيارة عند قرية (تابت).. في مقهى صغير جداً.. كان بعض الصبية يتسامرون على ضوء المصباح الذي يضيء المقهى.. وضعت العناقريب الصغيرة ذات الأرجل القصيرة في مواجهة بعضها.. ترجلت أولاً ثم تبعني الأخ “بشارة الطيب”.. والسائق والزميل الصحافي “أبو زيد صبي كلو” وكنا في رحلة صحافية تمثل صحف القوات المسلحة والسودان الحديث.. و”أبو زيد صبي كلو” مزيج من أم درمان ودارفور وضع أمامنا صاحب المقهى قارورة كبيرة من المياه ثم تبعها بصينية من اللحوم المشوية.. وقليل من الطماطم والخضار القادم من مناطق طويلة التي تبعد عن تابت بضعة أميال.. من على البعد لاح في الجنوب (برق) خافت بعيد جداً.. وكانت بخاطري سريعاً قريتي الميع.. ومهد طفولتي بالقرب من جبل القينقر ورحلات الرشاش ومطره الذي تصحبه الرياح والغبار ورائحة تراب الأرض.. تثاقلت خطانا عن النهوض من العناقريب الصغيرة.. وقد بعث برق الصعيد برياح خريفية باردة أنعشت جسدنا المتعب.. السائق كان على يقين بأننا سنغادر المكان.. لكن مع سرعة الرياح الباردة.. واخترنا المبيت في تابت حتى الصباح.. تسامرنا عن الرعي.. وكرة القدم وثورة الإنقاذ.. وما كنا على اتفاق على شيء إلا مهنة الصحافة التي تجمعنا والمهمة التي بعثنا من أجلها.. ووصايا الأخ العقيد د.”عبد العظيم نور الدين” رئيس تحرير الصحيفة.. مع ذكريات الأمس عن تابت التي أثير حولها غبار كثيف وجدل ومزاعم عن تعرض نسائها للاغتصاب، فأين صديقي وأخي “بشارة الطيب أحمد بوش” قد دفعته (الغبائن) إلى أحضان حركات التمرد وبات اليوم تحت قيادة حركة تحرير السودان جناح “عبد الواحد”، بينما ذهب “أبو زيد صبي كلو” لإذاعة دبنقا.. وهي الدنيا.. تفرق الأصدقاء.. وتمزق أحشاء المجتمع وحتى (تابت) تلك العروس التي تتبختر في مشيتها.. باتت في سوق النخاسة الدولية رقماً وغداً ستدخل قصر الأمم في جنيف!! والصراع في دارفور لا وازع أخلاقي له.. من أجل أن تكسب.. قل أي شيء.. وأفعل ما يرضي الضمائر الغابت أمام ضميرك أنت قد غاب عن الوجود.. ولكن هل تعود دارفور حتى تسعينيات القرن الماضي.. أم أصبحت دارفور (علقة) في رحم المجتمع الدولي.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية