التعديلات والعبور (2)
لم تتبقَّ من دورة البرلمان إلا بضعة أشهر وينصرف النواب ليخوض بعضهم الانتخابات القادمة من أجل العودة للمبنى الرمادي الفخيم، وفي مثل هذه الظروف يحرص النواب على رضاء حزبهم حتى تفتح لهم أبواب العودة من جديد.. ومن يقف في وجه إرادة الحزب بعد أن أجاز المؤتمر العام قرار إعادة النظر في نظام الحكم اللامركزي، فإنه حتماً ستأكله ذئاب السياسة. وقديماً قيل إنما تأكل الذئاب من الغنم القاصية!! وللمؤتمر الوطني هيئة برلمانية لنوابه هي من يقرر في القضايا الكبيرة، ويملك النائب البرلماني حرية التعبير عن نفسه داخل الهيئة البرلمانية، ولكن حينما يخرج منها ويجلس على كرسي النيابة هنا يصبح عضواً يعبر عن رؤية حزبه لا شخصه.
إن تعيين الولاة من قبل الرئيس اقتضته ضروريات ظرفية ومعالجات مؤقتة.. طبعاً الزعم بأن التعيين هو الخطوة المثلى قول يجافي المنطق، وتخوض الحكومة معركة سياسية وعسكرية مع حاملي السلاح من قوى الأطراف في جبال النوبة ودارفور، وهؤلاء سيتخذون من تعديل الدستور وتعيين الرئيس للولاة قضية يثيرون حولها مزيداً من الغبار والأتربة. والحركة الشعبية مثلاً في جبال النوبة طرحت في آخر جولة تفاوض مع الحكومة الحكم الذاتي للأقاليم بدلاً من النظام الفيدرالي، بدعوى أن الفيدرالية فشلت في تلبية أشواق الأطراف.. فإذا كانت القوى التي تحمل السلاح ترفض اللامركزية الحالية والأحزاب المعارضة غير مقتنعة بها.. والمؤتمر الوطني الحاكم في أكبر مؤسساته، فلماذا التمسك بقداسة بقرة الحكم الاتحادي؟؟
أما القضية التي ربما وجدت بعض الاعتراضات من خارج أجهزة المؤتمر الوطني، ومن بعض المجموعات التي شقت عصا الطاعة، هي قضية الأرض وتبعيتها للحكومة الاتحادية، وبالتالي إلغاء قانون الأراضي لعام 1920م، وهو قانون أكل عليه الدهر وشرب.. لكن تبعية الأرض وتقسيم المشاريع الزراعية هي واحدة من الأسباب التي حملت بعض الأهالي لحمل السلاح في وجه الدولة وحدث ذلك في سبعينيات القرن الماضي، والدولة قررت الاستيلاء على أراضي جبال النوبة في منطقة هبيلا ذات التربة الغنية، حيث وزعت المشاريع الزراعية للرأسمالية الوطنية التي تملك المقدرة على زراعة آلاف الأفدنة، وذلك على حساب سكان القرى الصغيرة.. حيث كان السكان المحليون من قبائل النوبة يفاجأون بوصول تاجر كبير يقود سيارة فارهة وملابس بيضاء تفوح منها رائحة عطور نفاذة.. يطالب التاجر سكان القرية بمغادرتها إلى منطقة أخرى لأن قريتهم التي يقطنونها منذ أكثر من مائة عام قد منحتها الحكومة (الراشدة) في الأبيض والخرطوم وكادقلي له لزراعتها، من أجل تعمير السودان وحتى يصبح السودان سلة لغذاء العالم العربي، ومن يرفض ويقاوم قرار الحكومة مصيره الاستدعاء في مخافر الشرطة والحبس والضرب بالعصي والهراوات.. فهاجرت النساء إلى المدن وكذلك كبار السن، ولكن الشباب حملوا السلاح في وجه الدولة وأصبحوا متمردين.. والوزير الوحيد الذي نظر لتظلمات الأهالي بعين الرحمة الإنسانية والأنصاف والبعد السياسي العميق، هو المهندس “عبد الجبار حسين عثمان”. وبالتعديل الجديد في الدستور تصبح أراضي منطقة بيضا بولاية غرب دارفور تابعة للحكومة المركزية، تتصرف فيها كما شاءت لتمنحها للمستثمرين ولا تستطيع جهة في الأرض مجرد الرفض أو مقاومة المركزية الجديدة.. وتملك الحكومة الحق في توزيع أراضي القاش بولاية كسلا للمستثمرين. وإذا لم تخضع قضية الأرض للحوار والنقاش من شأنها فتح جروح في جسد الوطن يصعب شفاؤها.. أما أن تترك قضايا كهذه (لترزية) قوانين يجيدون حياكة النصوص في هجعة الليل، فإن ذلك ينذر بشيء مستطير!!