أخبار

كاتم أسرار..!

كانت مهنة ولا زالت.. وهي مهنة قد تكلف المرء حياته.. مثلما أن عدم الالتزام بشروطها قد يكلف آخرين حياتهم أيضاً.. وفي الموروث الإنساني القديم ظللنا نسمع عن ملوك وخلفاء وزعماء ينتقون أشخاصاً بعينهم ويجعلونهم بمثابة البئر الذي يدفنون فيه أسرارهم وهم يمتازون بقدرة مدهشة على الإنصات الجيد ولجم اللسان وتكبيله من البوح بهذه الأسرار الخطيرة..!
ورغم أن مهمة هؤلاء تنتهي عند هذا الحد.. أي حد الاستماع والدفن العميق.. إلا أن من كانوا يملكونهم هذه الأسرار ظلوا دائماً يبادلونهم الثقة المطلقة ويؤكدون بأن مجرد البوح في الهواء الطلق أمامهم يشعرهم براحة عجيبة.. كأن أثقالاً حديدية تنزاح من على صدورهم.. غير أنهم سرعان ما يتحولون إلى مصاصي دماء حين يكتشفون أن أسرارهم تم تسريبها وهم لا يترددون في محو كاتمي الأسرار من على وجه الأرض حتى ولو أن هذه الأسرار خرجت من غيرهم أو روجت لها مجرد شائعات ثم تطابقت مع الواقع..!
كثيرون في التاريخ البشري المحفوظ على الأقل فقدوا حياتهم ثمناً لهذه المهنة.. وثمة قصص وروايات لشلالات من الدم سالت على كراسي الحكم من وراء الأسرار التي قد تكون بسيطة وصغيرة ولكنها قد تهز عرشاً أو تزعزع أمناً.
وفي حياتنا اليومية هناك من نأتمنهم على أسرارنا دون أن نملك عليهم حق العقاب والمحاسبة وإن أفشوا هذه الأسرار.. فقط نشعر بالصدمة والحزن العميق والأسى البليغ لأننا وثقنا بهم وملكناهم أشياء تخصنا.. وبحنا أمامهم بأمور إن تجاوزتهم شكلت خطراً علينا..!
وتجارب البشر ظلت تؤشر بجلاء إلى أن من يكتمون الأسرار هم عملة نادرة في هذا الزمن، وأن معظم الأسرار تجد طريقها للنشر والذيوع بمجرد أن تخرج من أصحابها، ورغم ذلك فهناك من يدمنون الحديث بصوت جهور أمام أصدقائهم عن أسرارهم وخفاياهم وخصوصياتهم.. يفعلون ذلك ربما للتنفيس عن أنفسهم أو إشراك الآخر في محنتهم وانتظار المشورة والنصيحة.. لكنهم وحين يصحون من غفوتهم يكتشفون أنهم وضعوا رقابهم رهينة للآخرين وأن مصيرهم قد أصبح مرتبطاً بهم وبمدى أمانتهم أو عدمها.. وفي كل الأحوال فحالة من الأرق والقلق تهيمن عليهم وقد تجعلهم يندفعون أكثر فيتوسلون ويترجون أن لا تخرج أسرارهم التي قد يستغلها البعض لابتزازهم أو النيل منهم..!
ومناسبة الحديث عن الأسرار، هو فيلم شاهدته مؤخراً من بطولة الفنان “أحمد زكي” يجسد فيه دور (وزير) فتح قلبه لمعاونه الخاص وأخبره بكل تفاصيل حياته وملكه نقاط ضعفه وأسره بخطاياه وذنوبه وحين انتبه لنفسه اكتشف أن (معاونه) هذا يعرف عنه كل شيء ويمكن أن يشي به أو يتآمر عليه، فما كان منه إلا أن أطلق عليه الرصاص بمسدس (كاتم للصوت).. ظناً منه أن ذلك وحده هو الذي سيحيل بين (كاتم أسراه) وفضح حقيقته التي لو عرفها الآخرون لسقط في نظرهم وسقطت الحقيبة الوزارية من يده..!

هناك أسرار، خاصة في حياة الكبار، لا يستطيعون استبقاءها في أعماقهم لذلك هم يجهرون بها لمن يثقون في أنه أمين عليها.. ولكن حين يتنفسون الصعداء ويخرجون الأسرار الساخنة من صدورهم يشعرون لاحقاً بمشكلة أخرى هي الخوف والقلق والرعب من أن يفشي هذا الأمين تلك الأسرار.. لذلك من يحملون عبء هذه الأسرار يتحسسون دائماً رقابهم.. ويضعون شريطاً لاصقاً على أفواههم.. ورغم ذلك هم لا يأمنون مغبة ما قد يحدث لهم..!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية