«غازي صلاح الدين» : « عثمان اليمني» أحد رموز الفن وكان صاحب رؤية فنية متحضرة
(الزول بي قليلتو يكوس سترتو.. سعيد العيشتو جنب طينتو وتمرتو.. يقلع منو يشيل في حضرتو.. يطاوع والده واستحمل نهرتو.. يخالط جارو بي شايو وكسرتو)
هذه إحدى (الرميات) التي اشتهر بها “اليمني” في ابتدار أغنياته، وهي تعبر عن بساطة حياته وأصالة أخلاقه وطيب معشره.. “عثمان اليمني” فقد للوطن وللإنسانية.. فقد للطمبور والجمال الذي يسري في إيقاعه.. خطوات خطاها في مسيرة حافلة.. بأغاني الحب والجمال.. الوطن والأرض عاش بسيطاً كبساطة أغانيه المفعمة بالروعة.. من داخل سردق العزاء التقت (المجهر) بأهله وأصدقائه وتلامذته، وأفردت لهم المساحة للحديث عنه ماذا قالوا؟
الفي يدو ما حقو
رحل الفنان “عثمان اليمني” بعد معاناة مع المرض شرحها لنا شقيقه الشاعر “نور الدين اليمني” العضو التنفيذي للاتحاد العام للأدباء والكتاب، قائلاً: عانى أخي “عثمان” من المرض منذ العام الماضي، مفصل رجله اليمين كان مهترئاً، ولديه ثلاثة مفاصل صناعية في الظهر معطلة من أصل أربعة مفاصل، سافر “الأردن” لإجراء عملية جراحية فاكتشف الأطباء أن قلبه لا تحمل جراحة، ظل صابراً تحمّل المرض في جلد نادر، (الأربعاء) الماضي تأزمت حالته، فذهبنا به لـ(مستشفى الشرطة) لإجراء الغسيل الكلوي فوجد الأطباء أن أوردته لا تحتمل، (الأحد) أُدخل للعناية وعمل له الأطباء ما يلزم، وبعد ساعة من استقرار وضعه الصحي شعر بضيق في التنفس وأسلم الروح إلى بارئها. وعن مشواره الفني قال: سبب قدومه إلى العاصمة حرمانه من دخول (دار الرياضة – عطبرة) لأنه كان متعصباً في تشجيعه لـ(نادي الوادي)، عند مقدمه عمل ترزياً بأم درمان (حي العرب)، أصدقاؤه سمعوا صوته فنصحوه للذهاب إلى (الإذاعة) ومنها كانت انطلاقته، وأول أغنية سجلها اسمها (إن بقت طابت وجات عديل)، ثم بدأ يردد أغاني التراث ويبحث عنها، أسس (نادي الطمبور) صرف عليه من جيبه، وهو صاحب فكرة ومبادرة برنامج (نادي الطمبور) بـ(التلفزيون القومي)، وكان يصر في كل حلقة على تقديم صوت جديد، كان متسامحاً ويتعامل بأريحية (والفي يدو ما حقو)، شعاره (انفق ما في الجيب يأتيك ما في الغيب). وعن الأعمال المشتركة قال: كان يطلع على أعمالي أولاً بأول، فغنى لي تسعين عملاً تنوعت بين (الفصحى) و(الدارجي) وفي كل مجالات الغناء، وعن مواقفه الإنسانية حكى لنا واحداً منها قبل قيام (نادي الطمبور) كان جالساً في (نادي القوير)، جاءه أحدهم فقال له: إن هناك امرأة تنتظرك، فذهب إليها فقالت له إن والد أطفالها قبل وفاته وعدهم أن يحيي حفل ختانهم “عثمان اليمني” رحب بها، بل وأعطاها عشرة جنيهات لتشتري منها خروفاً وغنى لهم في الحفل مجاناً. وفي الختام تقدم بالشكر إلى السودان حكومة وشعباً لمواساتهم في فقدهم.
حصافة في اختيار النصوص
مدير إذاعة (ذاكرة الأمة) الأستاذ “عوض أحمدان” قال: “اليمني” صاحب قلب أبيض فرض نفسه على الآخرين منذ دخوله الساحة الفنية في الستينيات، بداياته كانت عكس فناني الطمبور الآخرين الذين يظهرون في البلد ثم يأتون للإذاعة، قدم نفسه للملأ عبر الإذاعة مباشرة، كان يتمتع بحصافة في اختيار النص الذي يحمل مضامين، تعامل مع أكثر من (37) شاعراً منهم “إسماعيل حسن” و”الحاردلو” و”بن عوف” و”عبد المنعم أبو نيران” و”عبد الله كنه” و”محمد سعيد دفع الله” وغيرهم، ثم تحدث عن قدرته على جمع الناس وتقدم الصفوف وفي الخاطر (صالون اليمني الثقافي) الذي يقيمه في منزله، ولما اتسع خرج به إلى الفضاء الواسع، ومن أشهر رواده اللواء “الهادي بشرى” ومولانا “محمد أحمد سالم”، وختم قوله معتبراً فقده فقد أمة بحالها.
وصيته المحافظة على التراث
وتحدث إلينا الفنان “محمد محمد الحسن ود المساعيد” قائلاً: أولاً أعزي كل الشعب السوداني في فقيد الوطن الفنان الإنسان “اليمني” الذي ساهم في انتشار أغنية الطمبور بصوته العذب وأدائه المتفرد ووقفته مع كل الأجيال التي أعقبته، فهو احتضن كل فناني الطمبور في داره وقدمهم للإذاعة والتلفزيون، وأضاف: تربطني بـ”اليمني” علاقة رحمية (ابن خالتي)، أدخلني التلفزيون عام 1979م في برنامج (نافذة على الربوع) وصيته لنا المحافظة على التراث، واحتضان الشباب وكان يحذرنا من السرعة في الإيقاع، وبوصيته أشرفت على أكثر من فنان، أدعو ربي أن يتقبله قبولاً حسناً.
مفصل بارع للأغنيات
الكلام عن “اليمني” يطول، هكذا بدأ الشاعر “محمد حبيب الله كدكي” حديثه إلينا ثم مضى يقول: “اليمني” فنان متمكن تتلمذ على يد والده الشيخ “عبد الرحمن علي “، وتمكنه من تجويد القرآن ساعده في تجويد أداء الأغاني، استفاد من عمله كترزي فأصبح مفصلاً بارعاً للأغنيات، والجيش علمه الانضباط، علاقتي به ابتدأت منذ العام 71-1972م، وقبل الالتقاء كانت بيننا مراسلات، أول نص أعطيته له نشيداً وطنياً عن ثورة مايو، بعده جاءت الأعمال العاطفية (عاش الراجي يا التومي.. والقمرا عليك تومي واجبري الخواطر النبي قال ليك تقومي..) وأخريات. وأبان أن “اليمني” فنان ذكي أسس لنفسه مدرسة خاصة وسط عمالقة الطمبور “النعام آدم” و”صالح حسين”، فهو من ابتدع (الرمية) والأغنية الحركية.
قدوتي ومبتكر الرمية
تحدث الفنان “محمد النصري” قائلاً: نعزي كل الشعب السوداني في هذا الفقد، و”اليمني” هو الفنان والإنسان والمعلم، ونحن تعلمنا منه الكثير، ثم أوضح “النصري” أن بداياته الفنية كانت في منزله وأعطاني الثقة وكان قدوتي، ورددت من أعماله (شادية نارها آذتني.. ويا مشرقي الكاب لونك سمح جذاب، كنت ألازمه ولا يفرزني من أبنائه، أوصاني على التعامل الطيب مع الناس وعدم المجاملة في اختيار النص، وبالمظهر المشرف للفنان.
حلم بمسرح شعبي
وتحدث إلينا المذيع “محمد جمال” وهو يغالب دموعه قائلاً: شمعة انطفأت في الحياة، كان منزله ملتقى ومنتدى لكل الجيران، ورغم صراعه مع المرض ابتسامته لم تفارقه، ثم كشف لنا أن آخر أحلام “اليمني” كانت تحويل ساحة منزله الأمامية إلى مسرح شعبي يحيي التراث.
شخصية قوية وهندام جميل
ترحم الشاعر والفنان “عيسى بروي” على أستاذ الأجيال المربي والوالد ثم قال متحسراً: “انهدم ركن من أركان الطمبور، “اليمني” غنى للوطن للمزارع للسلام للغربة للجمال، تعلمت منه الكثير في بدايات حياتي الفنية، وأهم ما يميز “اليمني” الشخصية القوية والهندام الجميل والتعامل الطيب.
والله طاريك وطاري العشيرة
الشاعر والأديب “حسن طه الملك” رثاه بكلمات دامعة، فقال: “أنا والله طاريك وطاري العشيرة.. الرددناه معاك ترددها النفس مع ذاتا.. آخر المشوار الزومة التي أعطيتها قلبك.. الزومة جاءت الأولي يا أخواني غنولها.. قمة الوفاء ومنها امتدت خطوات ومشاوير إلى كل السودان، الوطن، الإنسان المزارع.. ومراحل زمنية مشيناها على البعد وعلى القرب.. بنطون القرير مقاشي.. درب الجمل متجهاً نحو الزومة.. ترافقك رفيقة دربك بنت الزومة الفضلى أيام الفتوة والشباب.. ترتفع أيدينا لتحيتكم تردون التحية بأفضل منها.. لم نسمع منك إساءة لأحد.. ولم تمتنع عن الاستجابة لطلب أحد مهما علا.. نعلم أننا مغادرون هذه الدنيا ولكن تبقى ذكرى الخلود بالأعمال التي نتركها.. مثلك لا يموت.. والحزن يا “عثمان” لا يبارح ولا يفوت.. عليك رحمة بلا حدود”.
عيشة (ترابلة)
وفي ختام جلستنا بسرادق العزاء جلسنا إلى ابنه “عبد الرحمن”، ترحم على والده ثم تحدث قائلاً: “أبوي كان راجل دغري وواضح مثل السيف لا يحمل ضغينة لأحد، وأوضح أن بدايات ظهوره بعد جيل الفنان “النعام آدم” وابتكر أشياء متعددة في الطمبور مثل (شد السلك الأوسط)، وحكى له أحد مواقفه الإنسانية أنه كان يقيم بروفاته في منزل “سمير” عازف (سكسفون)، ولما توفي “سمير” بادر مع الخيرين بإقامة منزل لأسرته، وكان ينصر المحتاجين وعندما يعلم أن أحد أصدقائه أو جيرانه لديه مشكلة يبادر بحلها قبل أن يدعو أحداً، عاش حياة بسيطة حياة (الترابلة)، في آخر أيامه فكر في بيع منزله ليشتري آخر في “القرير” أو “سوبا” لإقامة مزرعة صغيرة لأنه في الأصل (تربال)، كان يوصيني بالمحافظة على الصلاة، مضيفاً: ما تأكل حق زول وما تأذي زول، وما تخلي زول يأكل حقك، ولا تندم على شيء فعلته في الحياة.
صاحب صوت وعقل
في الختام قبل أن نهم بالخروج تحدث لنا الدكتور “غازي صلاح الدين العتباني” رئيس حركة (الإصلاح الآن) بكلمات مختصرة وعميقة قائلاً: الفنان “اليمني” كان أحد رموز الفن المخضرمين وصاحب رؤية فنية متحضرة، وأضاف: “اليمني” لم يكن فناناً عادياً، بل كان صاحب صوت وعقل وتجربة إبداعية فريدة، وقال إنه كان من المبدعين الذين يتميزون بعلاقات إنسانية واسعة، معتبراً رحيله فقداً للإبداع والإنسانية.