الديوان

(الطيور) في السودان.. أشكال متعددة وسياحة طبيعية لا تنقطع

هذه وجبة سياحية نقدمها لمحبي الطبيعة وعشاق الطيور، نتجول معهم في طبيعة السودان، التي نعدّها مازالت مجهولة كماً وكيفاً لكثير من الناس، على الرغم من أنها تحتوي من العجائب والطرائف والروائع ما يجعلها كنزاً مدفوناً يحتاج إلى من ينقب عن آثاره، ويكشف دهاليز تلك المناخات ذات الخارطة الملونة التي تمتد من الصحراوي في أقصى الشمال مروراً بشبه الصحراء ثم المداري وشبه السافنا. وفي أحضان هذه الطبيعة الساحرة نمت بوادر الإبداع عند أهل السودان، فصارت ثقافتهم ملونة مثل الطبيعة، ومتعددة مثل المناخ، وجميلة مثل النيل، وعريقة مثل القبائل. وكذلك الطيور في السودان.. هي رمز من رموز تلك اللوحة البديعة، تعشق سكناه وتألف أهله. وهم كذلك يحبونها طائرة ومحلقة ومغردة، ولا يحبونها في القفص ولا يؤمنون بفكرة العصفور في اليد خير من عشرة على الشجرة، ذلك لأنهم يعشقون الحرية ويكرهون الأسر والقيد.. ويحبونها في العالي والقمم لأنهم يدمنون الشموخ وينشدون السمو ويسعون له دائماً.
{ ماذا عن الطيور السودان؟؟
نسبة لموقعه الجغرافي يعدّ السودان المكان الأنسب لإيواء وتأمين البيئة المثالية للطيور المهاجرة، التي تأتي إليه في رحلات طويلة ومضنية تمتد أحياناً من القطب الشمالي في أقصى الكرة الأرضية مروراً بأوروبا والبحر الأبيض المتوسط. وتتنوع الطيور المهاجرة إلى السودان في فصائلها، وكذلك في مواسم رحلاتها، فمثلاً هنالك طيور تظهر في الشتاء كـ(أم قيردون) و(الرهو) و(صقور شاهين) وغيرها الكثير، ومنها ما يزور السودان في فصلي الربيع والخريف كـ(السمبر) و(لاقط الذباب) و(الصقير) و(أبا جبار) وغيرها.
ومن المعروف أن السودان يشكل منطقة ربط لثلاث قارات، أوروبا وآسيا وأفريقيا، وذلك جعل منه الطريق الرئيسية لهجرة الطيور عبر هذه القارات. ويوجد بالسودان (950) فصيلة من فصائل الطيور المهاجرة، جذبها المناخ السوداني بأنهاره ومستنقعاته وأشجاره الاستوائية وسهوله وبراريه، الذي جعل أعداداً كبيرة جداً من هذه الطيور تستقر في السودان وآثرت أن تجعله موطناً دائماً لها. والطيور في السودان تعيش في كل مكان، بداية من الصحراء التي من طيورها (الحباري) و(العداء الأصفر) و(القبرة) و(الهدهدية)، وطيور أخرى تعيش في شبة الصحراء كـ(القطا) و(القبرة المتوجة)، كما تعيش أنواع أخرى في المناطق السهلية والغابات، ومناطق السافنا والبحر الأحمر.
وبتنوع الطيور وأشكالها، تتنوع أيضاً الفخاخ والشراك، فمثلاً في غرب السودان يصنعون شركاً من قشر البطيخ (القحف) بعد أن يفرغ منه اللب، فيكون على شكل دائرة نصفها الفارغ يوضع فيه اللب الذي يستخدم كفخ للطيور والعصافير ونصفها الآخر يكون من أعلى، شكله كإناء مفتوح، عندما تراه العصافير تندفع إليه وتدخل في تجويفه لتأكل من بقايا اللب وعندئذ يطبق الصياد، وغالباً يكون صبياً، بخفة متناهية الجزء الأعلى مع الأسفل ويحظى بصيد وافر من العصافير.
وهناك نوع آخر من الشراك يصنع من ثمار شجرة لزجة يقال لها (العنبة) وهي من أشجار غرب السودان، وثمرة هذه الشجرة عندما تُمضغ تصير لزجة جداً كاللبان أو العلكة، فتوضع داخل إناء أو داخل تجوف البطيخ (القحف) وعندما تنزل الطيور عليها تلتصق بها وتعجز عن الطيران فينقض عليها الصبية ويأخذونها فريسة ثمينة. وهكذا فإن السودان بتباينه وتنوعه جعل لكل منطقة عاداتها وتقاليدها المختلفة في شتى فنون الحياة. وصيد الطيور يشكل متعة خاصة للصغار الذين لا تتعدى اهتماماتهم أكثر من صيد العصافير الصغيرة أو المتوسطة الحجم كـ(القماري) و(البلابل) و(اليمام)، غير أنه أيضاً يشكل متعة وهواية وصنعة للكبار، فهؤلاء يسعون لصيد الطيور الضخمة التي يعدّ لحمها غذاء شهياً، ومن أفضل أنواع اللحوم التي يتغذى بها الإنسان، من هذه الطيور (الرهو)، و(الحباري)، و(أوزين)، و(دجاج الوادي)، و(القطا)، وبعض (القماري) البرية التي تعيش في الوديان البعيدة، ويستخدم الكبار أيضاً في الصيد نماذج مختلفة من الشراك كالفخاخ والشباك أو البنادق التقليدية المعروفة ببنادق الصيد. وكانت بعض القبائل تدرب أنواعاً من الصقور والكلاب لاصطياد الطيور والأرانب البرية (القنيص)، وأحياناً يضطر الصياد إلى دفن جسده في رمال الجزر النيلية التي تبيت عليها أسراب من الطيور ولا يظهر سوى رأسه وفوهة بندقيته، ويظل يراقب عودة الطيور عند المساء التي غالباً ما تكون من نوع طائر (الرهو) كبير الحجم ولا يسكن إلا في جماعات أعدادها كبيرة، فيحظى بصيد ضخم يعود به إلى بيته لينعم بمائدة شهية ربما يجتمع لها أهل الحي أو القرية. ومن عجائب طائر (الرهو) هذا أن له حرساً من السرب يتناوبون على حراسته ليلاً، يقفون على الأطراف في الاتجاهات الأربعة يراقبون أي قادم أو حركة، وما أن يحس أحدها بخطر حتى يصدر صوتاً عالياً فيتبعه الآخرون في ذلك، فيهب الجميع طائراً بعيداً عن مواطن الخطر.
هذا قليل عن طيور السودان التي بدأت أعدادها تتناقص خاصة في المناطق الآهلة بالسكان الذين أصبحوا يشكلون مصدر خطر عليها، كما أن سنوات الجفاف التي اجتاحت البلاد في زمان مضى قد تسببت في نزوح كثير من أنواع الطيور إلى أماكن أخرى، فصار الصيد يحتاج إلى شد الرحال ومعاناة طويلة. ولكن العصافير الصغيرة والمتوسطة الحجم ما زالت بأعدادها الهائلة تملأ سماء السودان في الحضر والبوادي.. ومن أورع ما يشاهده الإنسان عند الصباح الباكر وبداية الحياة منظر هذه الطيور بأشكالها الجميلة وألوانها المتنوعة، فتراها تتقافز في خفة ونشاط على الأشجار وعلى سطوح المنازل وعلى الأسلاك الكهربائية وعلى الهوائيات، وفي النوافذ وفي كل مكان. إنها حقا ثروة طبيعية ومنحة إلهية تدعو الإنسان إلى التأمل بشتى ضروب الخيال والفكر.. وعلى الصعيد الشخصي، نحلم بأن تجد هذه الثروة الطبيعية قدراً من الاهتمام والحماية والأبحاث وكذلك الاستثمار،لا سيما أن العالم الآن يزخر بكثير من الجمعيات والمنظمات والروابط، التي تعمل على البحث في عالم الطيور وحمايتها وصداقتها والاستمتاع بعالمها الجميل الجذاب.. نتمنى أن تنشط هذه الجهات لتحمي وتدرس طيور السودان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية