أخبار

استراحة (الجمعة)!!

حاجة “قسمة” امرأة بطعم ذلك الزمان في النصف الثاني من ثمانينيات القرن الماضي… تجلس على مقعدها الصغير منذ الساعة الثامنة مساءً وحتى النصف الأخير من الليل في حي القبة غرب أحد أعرق أحياء مدينة “الأبيض”.. أو (فريق الجلابة).. و”الأبيض” مدينة تتقمصها أحياناً روح البادية.. بها فريق أبو خمسة وفريق فلاتة.. وفريق العشر.. مدينة سكبت عليها العسكرية مذاقاً خاصاً وهي تحتضن الفرقة الخامسة مشاة.. الهجانة أم ريش أصل الريش كما تقول المغنية الشهيرة زهراء الرقاشة الماشالت مقشاشة ولا بارحت السباتة!!
حاجة تعيش أسرتها الصغيرة على (قدرة) فول وحلة فسيخ وقليل من الكفتة.. تصنع طعاماً بمذاق خاص.. مثل عطرها الذي يماثل عطر أمي وأمك وخالتي وخالتك.. للنساء فوق الخمسين. عطر خاص يتسلل إلى دواخلك ويمنحك الإحساس بالأم وهي تضع ابنها بين يديها.. عندما نعود من ملعب إستاد “الأبيض” سيراً على الأقدام والنشوة والأفراح تملأ جوانحنا هلالاب ومريخاب.. مورداب كانت “الأبيض” معدناً نفيساً ليخدم كرة القدم. هل ينسى الرياضيون وذواق اللعب النظيف والأهداف الرائعة لاعبين مثل “عبود” و”عماد النهود “شقيق الصحافي “الرشيد يوسف” و”كلت” و”حسن تبتب” أفضل لاعب وسط يحرز أهداف والذي أصبح الآن موظفاً في الشرطة.. من لا يتذكر “أحمد الشفيع” في المريخ و”نوار” في الموردة و”نيسو” و”عصام فلاته”!! أين “باروردي” و”السنجك” ونجوم الأبيض التي لن تعود لألقها القديم!!
من إستاد الأبيض حيث تلعب المباريات عصراً نعود لبيوتنا لنسأل عمي الراحل “البشرى إبراهيم الزاكي” يمنحنا (جنيهات) سينما (الخميس) حيث الأفلام الهندية المرعبة، نعود من السينما لمقهى حاجة قسمة بالقرب من نادي الموردة الأبيض.. نجمع الجنيهات من أجل صحن الفول الذي تحرص حاجة “قسمة” على إضفاء (البهارات والشطة وقليل من الفسيخ).: لقد طفت أرض الله شرقها وغربها ونزلت مصر حتى التخصص في (تصليح) الفول لم أتذوق فولاً بطعم فول حاجة “قسمة”!!
كانت تميز الطلاب عن بقية أولاد الحلة.. عندما يأتي “منصور بشير تنقا” و”كمال نوار” و”أحمد الشفيع” يتسامرون ويوزعون الضحكات.. تضج الساحة بالقفشات من “إسماعيل أبو قزوزة و”ود الحبشية”.. و”النور أبو صلعة” للعشاء عند حاجة “قسمة” مذاق خاص مثل باسطة وحلاويات جروبي وأقاشي “أبكر ود ميمونة”.. وأجزخانة الراحل “أبو عجل”.
كانت الأبيض مدينة العشاق والأدباء والمثقفين… لا تطالبك حاجة “قسمة” بثمن وجبة العشاء إن كنت طالباً أو داهمك الفلس ونضوب الجيب، مع أن الأبيض مدينة التكافل والتراحم، وكان رجالات أعمالها أمثال أولاد “أبو جيب” و”بكري السيد المكي” وآل قمبور”. وآل الُبر” و”عبد الكريم حسين جعفر” و”النماري” و”سليمان” دقق بمثابة ديوان زكاة يكفلون أضعاف، أضعاف ما يكفله ديوان الزكاة اليوم بلا ضوضاء ولا من وشيل حال!!
حاجة “قسمة” أم من كانت أمه في كاذقيل أو الفولة.. وخالة لمن ماتت خالته.. كان العسكريون من الهجانة أم ريش هي سند المجتمع وظهره وحماة عرضه!!
ومن المواقف النبيلة التي كشف عنها مولانا أحمد هارون أن (عساكر) الهجانة قرروا التبرع براتب يوم لصالح النهضة لمدة (3) سنوات. وفشل اللواء “حسين جيش” في إقناعهم بأن الجندي أصلاً متطوع ومتبرع بحياته.. ذلك لأن الهجانة في الأبيض هي جزء من نسيج المجتمع.. آلا ليت أيام الصبا تعود!! وشكراً لحاجة “قسمة” التي أطعمتنا أيام المسغبة والحاجة والفقر غير المذل!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية