أخبار

مجرد خيال..!

تخيلت أن البشر كلهم أصبحوا مكفوفين.. لا أحد يرى.. ولا أحد ((يعاين)) أو ((يشوف)).. وتخيلت أن ((العصا البيضاء)) التي يحملها المكفوفون حلت محل السيارات والقطارات والطائرات والبواخر.. وأصبحت المنتج الأول والأهم والذي يتحكم في أسعار العملة والنفط.. وحين نسأل أحدهم عن حلمه سيقول لك: ((أحلم بعصا بيضاء)) فهي معينه الوحيد في السير والعيش.. إنها تنافس الزوجة نفسها..!.
وتخيلت أن هذا ((العمى)) الذي حل بالعالم ألغى تلقائياً الكثير من الأشياء التي لا يمكن رؤيتها.. ولأن كل الأشياء لابد من رؤيتها.. فكلها أصبح ملغياً.. لا قنوات فضائية ولا مسارح ولا دور سينما ولا رجال مرور!!.
ولأن هذا التخيل بتلك الطريقة ((المطلقة)) مسألة مستحيلة قد تعني نهاية العالم.. فقد تخيلت في ما تخيلت أن ((البصر)) قد عاد لبعض من البشر وليس كلهم.. وهنا حدثت مشكلة ضخمة.. حيث تخيلت من الذي يستحق إعادة البصر إليه.. ومن الذي لا يستحقه..؟!.
وبعد سلسلة من التخيلات وجدت أن البصر قد عاد للأطفال.. فهم أبرياء ويستحقون الرؤية.. ثم أبصر كبار السن لأنهم ((طيبون ومسالمون)) وغالباً لا يؤذون أحداً.. ولأن الخيارات المتبقية لإمكانية الإبصار لم تعد كثيرة فقد تخيلت جدلاً كثيفاً حول أيهما أحق بالرؤية.. الأغنياء أم الفقراء .. المدنيون أم العسكريون .. الحكام أم المحكومون .. الأشرار أم الأخيار ..!
وبعد أخذ ورد تخيلت أن الاتفاق قد تم على ((تبصير)) من يرى العالم بشكل أفضل وعادل .. وهنا صاح الجميع بأنه سيقبل هذا الشرط .. ولأن الساسة غالباً لا يوفون بوعودهم بعد الانتخابات .. فقد تخيلت أن الضمانة الوحيدة لتنفيذ هذا الشرط هو أعادة ((العمى)) فوراً لمن لا يفي بوعده ..!.
ولأن البصر نعمه ومن يفقدها مرة لا يتجرأ على فقدانها مرة أخرى فقد تخيلت أن الجميع التزم بهذا الشرط وبالتالي استحق أن يكون مبصراً وليس كفيفاً..!.
وتخيلت أن العالم كله عاد مبصراً وعادت السيارات والقطارات والطائرات والبواخر والفضائيات والمسارح ودور السينما .. مثلما عاد رجال المرور وبقية الناس من الحاكمين والمحكومين .. كل شيء عاد إلى طبيعته … ولأن ((البصر)) كان معطلاً طوال فترة ((التخيل)) الأول فقد اختفى العالم بعودة البصر ..وبينما تراجعت صناعة ((العصا البيضاء)) تصاعدت صناعات أخرى وفي مقدمتها صناعة العدسات الطبية وكثرت ((النظارات))الشمسية بألوانها المختلفة.. وانتعش أطباء العيون .. وعاد الشعراء يكتبون القصائد في العيون وينشد المغنون للعيون!!.
ووصل الاحتفاء بالبصر إلى وضع ((عين)) على أعلام كل الدول.. وجعلها شعاراً لكل الفعاليات والمناسبات.. أما ((المعالجون)) من الإصابة بعين الحسد فقد شهدوا رواجاً ضخماً وتم تخصيص برامج لهم في الفضائيات يتحدثون فيها عن كيفية الوقاية من عين الحسد..!
وفيما كان العالم يحتفي بالعيون ويبتهج بعودة البصر.. تخيلت أن ((حليمة رجعت لعادتها القديمة)) وتخلى ((المبصرون)) عن الوفاء بالشروط التي بموجبها عادت أبصارهم.. فما عادوا ينظرون للعالم بشكل أفضل وعادل..!.
ولأن الحكاية كلها خيال وتخيل فقد تركتهم يفعلون ما يريدون.. وقلت لنفسي إنها أبصارهم وهم أحرار فيها.. ثم صحوت من نومي ونظرت إلى السقف ثم يميناً ثم يساراً..فقلت الحمد لله.. ونسيت مثلي مثل الآخرين ما تخيلته والذي تاه في زحمة تفاصيل الحياة والمشغوليات اليومية.. لكن أحدهم قال لي وقد لامس كتفي كتفه وأنا أسير في شارع عام: ((يا أخي أنت عميان ولا شنو.. ما تفتح وتشوف قدامك..)).. فابتسمت وانصرفت مسرعاً.. وقلت لنفسي الظاهر الزول ده من الجماعة (الإتخيلتهم) أمبارح..!.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية