دعوة للاكتشاف
مازلنا لا نعرف الكثير.. ما نعرفه هو أقل القليل.. فالعالم كبير.. ومتخم بالتفاصيل.. ومليء بالألغاز والأسرار.. لكني لاحظت أن رغبتنا كسودانيين في الاكتشاف محدودة.. وأكثرنا لا يفضل المغامرة، بل يتخذ من المثل (أمشي جنب الحيط وخليك في الضل) قاعدة ذهبية في حياته، فيما ندمن (الروتين) على نحو قاتل، في أعمالنا.. وهواياتنا.. وتواصلنا.. صحيح نحن اجتماعيون.. وصحيح أبوابنا مفتوحة للآخرين.. ولكننا في صعيد اكتشاف المجهول والغامض (منكمشون) و(متقوقعون).. وقد ينطبق على بعضنا الذم القائل بدفن الرؤوس في الرمال كالنعام تماماً!.
لماذا لا نحاول ممارسة لعبة الاكتشاف؟! ولماذا لا نجاسر بكسر الروتين وتجاوز الحدود الوهمية التي توارثناها، وأصبحت لاحقاً حركتنا لا تخرج عن مداها الضيق.!
(الخواجات) مثلاً مشهورون بالسفر إلى أماكن لا يجيدون حتى نطق اسمها.. وشعوب كثيرة (مهووسة) بالتغوغل في أحراش وغابات ومجاهيل بلدانها.. بحثاً عن حياة جديدة واكتشافاً لأشياء لم يعرفونها من قبل.. فيما نستصعب نحن مجرد قضاء إجازة سنوية في ربوع الوطن.. الآمنة والسالكة.. وإن فعلنا ذهبنا إلى مساقط الرأس الأولى وليس أبعد من ذلك.. قد تكون إمكانياتنا محدودة ومشغولياتنا أقسى من أن نغادرها.. ولكن ألا تستحق هذه الحياة بكل ضغوطها أن نجدد من هوائها وأن نتحايل على ضوابطها وشروطها. ؟!
أعرف سودانيين من أجيال مختلفة يمارسون هواية الاكتشاف من خلال الأسفار البعيدة.. ليس بغرض النزهة أو تزجية الوقت.. إنما غالباً بحثاً عن الرزق أو حتى هرباً من واقع ما. وما كنت أتصور مثلاً أن أجد سودانيين في كوريا الجنوبية التي زرتها في مهمة صحفية ذات أعوام.. وما أدهشني أن من التقيتهم في العاصمة (سوول) في ريعان الشباب ورغم عددهم القليل جداً ولكنهم كانوا (ماهرين) في تقصي أثر المدينة المزدحمة.. والتعايش مع أهلها الطيبين.. وعندما سألتهم عن سر وجودهم في هذا البلد البعيد.. أجابوني مازحين:(ومال الكوري الحايم في السودان ده البجيب اسبيراتو منو)؟!!.
وفهمت من ذلك الرد أنهم تجار شباب..قد تكون تجارتهم لا تتعدى مفهوم (الشنطة)، ولكن ما استوقفني هو المغامرة في حد ذاتها، حيث ما كنا من قبل يمكن أن نتجاوز في أسفارنا الخليج أو القاهرة أو سوريا أو حتى بعض الدول الأوربية وأمريكا وكندا وأستراليا.!
الآن توجد حسب إفادة صديق لي أعداد مقدرة من السودانيين في الصين، ومعظمهم يشتغل بالتجارة أيضاً ويقوم باستيراد المصنوعات الصينية وإدخالها للسودان.. وحدثني ذات الصديق بأن السودانيين من الشباب وصلوا إلى معظم الدول الأفريقية وبينهم من زار جزر القمر.. أما هذا الصديق فقد كشف لي عن أنه بصدد السفر إلى (بروناي) وابتسم مضيفاً: لو وصلت إلى هناك سأصبح مليونيراً في أيام.. وتابع: إنه بلد صغير وكثافته السكانية شحيحة ومن يتزوج هناك يفرشون له الأرض وروداً.. وسلطانهم كان أغنى رجل في العالم.!
هذه إشارات على قلتها قد تؤكد أننا كسودانيين بدأنا نفكر بشكل عملي في الاكتشاف والمغامرة، وقد ساعد الشباب في ذلك ثورة المعلوماتية والاتصالات ومفاهيم العولمة وما تطرحه من أفق ضيق جداً لعالم أكثر محدودية، حصره البعض في قرية وحصره البعض الآخر في شاشة حاسوب صغيرة.. ولكن هذا لاينفي أن مغامراتنا مازالت في طورها الأول.. ولم تتحول إلى ظاهرة، حيث مازلنا حبيسين لذهنية الموجود والممكن والمتاح.. ومازلنا نفضل أن نقلد بعضنا البعض.. واحد يفتح محل اتصالات.. تاني يوم السودان كلو يتملي محلات اتصالات.. وواحد يجيب ركشة.. البلد كلها تتملي ركشات.. طيب متين كل واحد فينا يفكر براهو.. وما يقلد الآخرين.. ومتين يخلف رجل على رجل ويقول للحوالينو : أنا اخترعت.. أو أنا اكتشفت.. ومتين نحكي مغامراتنا البريئة والمفيدة لأولادنا… ومتيــــن….؟!.