أخبار

طلاق امرأة

الصمت الذي لاذت به لم يمنعني من قراءة ما بعينيها.. كانت عيناها تقول كلاماً كثيراً.. شيء ما يعتمل في تلك الدواخل ولغة أخرى تكاد تنفجر بالعبارة.. كأنما الكلام المباح خرج تلك اللحظة في نزهة بعيدة تاركاً للسكوت فضاء الترقب والملل أو خدش حياء الوردة واجتراح البلاهة .. محدثتي التي لم  تنطق بحرف واحد امرأة في العقد الرابع من عمرها.. البياض بدأ يزحف على شعرها وخارطة من التجاعيد ترسم بداية لطوفان من الغضب ومسحة حزن تغطي جبهة عالية من الكبرياء.. لكنها – فيما يبدو ـــ سكتت دهراً وخاب ظنها في الناس أن يفهموا كلام عينيها ويترجموا قرائن أحوالها فيخففوا من آلامها ويمسحوا أحزانها .. حين جاءت لزيارتي ذات يوم حار ودخلت إلى مكتبي فوجدتني منكفئاً على ورق كثير لهموم وقضايا كثيرة كادت تعود أدراجها ثانية.. فقضيتها قد يكون مصيرها الانتظار بين طوابير شكاوى الناس وقد تتلاشى همومهم.. وددت حينها أن أشرح لها أن انتظار النشر ربما يكون أخف وطأة من انتظار الحل، حيث أن السماء لا تمطر ذهباً أو فضة وحيث أن اليد الواحدة لا تصفق، وأن مجرد الفضفضة عن همومنا وإيجاد من يستمع إلينا هو نوع من التنفيس الذي لابد منه حتى لا ننفجر. جال كل هذا الكلام بخاطري وهي تجلس أمام طاولتي بتردد، ثم فجأة وقفت منتفضة وحاولت الخروج لكنني استوقفتها قائلاً: لحظة من فضلك.. ماذا هناك .؟
حين أدركت أن في نبرتي شيء من الإشفاق وبعض التعجب عادت وجلست مرة أخرى .. سألتها : شاي أم بارد؟! صمتت برهة ثم أجابت قهوة.. وأنا أجري اتصالاً هاتفياً لإحضار القهوة لمحتها أخرجت خطاباً ومدته لي بيد ترتجف.. مظروف أصفر من النوع الحكومي صغير الحجم .. مددت يدي واستلمته وقبل أن أقرأ الورقة التي بداخله جاءني صوتها متحشرجاً: طلقني!! أخيراً نطقت التي سكتت دهراً.. لم أشأ أن أرهقها بالأسئلة المألوفة والمكررة ولكني اكتفيت بالقول : وبعدين!.. ابتسمت بشكل خافت ثم أخفيت دعابتي البريئة بعد أن أظهرت لي عبوساً وعتاباً أربكني، وأشعرني أن المسألة لها ما قبلها وبعدها وليست مجرد طلاق عابر. كان قصدي التخفيف من التوتر الذي غلف حضروها . لكني فشلت وقررت أن أصمت مثلها.. ونحن نحتسي كوبي القهوة .. أخذ حاجز القلق والشك الذي بيننا يتكسر شيئاً فشيئاً. وبدأت تتكلم: أفنيت زهرة شبابي له.. وافقت على الزواج منه وهو موظف صغير لا يملك شيئاً.. والدي فتح له بيته واحتضننا عشر سنوات لم يكن خلالها يصرف إلا على نفسه.. رزقنا بثلاثة أطفال جميلين تكفل والدي بكل نفقاتهم، أما هو فقد كان يتباهى بهم في المناسبات الاجتماعية فقط.. مللت غروره وكبرياءه الزائف وخاصة وعوده التي لا تصدق.. ليالٍ بحجم العمر الذي بيننا مكثت فيها وحيدة أعدد أنجمي التي لم تشرق على صباح، يعيدني للفرح الذي تبخر منذ أن هبطت سحابة صيفه الجدباء على بيتنا الطيب.. لولاك يا أبي الحنون ما كنت احتملت كل هذا البخل والضيم والغيم.. حاستي كانت تقول لي إن غيابه الطويل عني وافتعاله المستمر للمعارك بيننا ووعيده لي بالطفشان من البيت وراؤه امرأة أخرى.. حكايات الخيانة كادت تزكم أنوف جميع من يعرفنا.. في البدء لم أكن أصدقهم إلى أن رأيته بعيني يتجول معها هنا وهناك.. كلما اتخذت قرار الانفصال عنه ونظرت في عيون أطفالي شيء ما كان يهديء من غضبي وثورتي.. تركته يفعل ما يشاء وتفرغت لتربيتهم. لكنه لم يتركني وشأني فوالدي كبير السن وأعياه المرض وهو يريد أن يكون الآمر الناهي ليس لي ولأبنائه فقط، وإنما لكل الأسرة الكبيرة.. والدتي وإخواني وأخواتي.. قلت له لن تكون ملكاً متوجاً في هذا البيت لأنك لا تستحق ذلك.. صفعني وترك البيت ثم أرسل لي ورقتي وطلقني.. مشكلتي أيها الصحفي قد تكون غير صالحة للنشر.. فهي قصة عادية وعابرة وتتكرر في بيوت كثيرة.. إني فقط أسأل نفسي وبصوت مسموع: لماذا يكون مصير الزهرة الظمأ ثم الموت!.. بعدها انصرفت عني والدمع يترقق من عينيها.. قبل أن أعرف ما اسمها ومن تكون ومن أين جاءت!!.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية