ثقافة التعليب
نحن في زمن له شروطه.. حيث لا وقت للتمعن والتأمل والتعمق ومن يفعل ذلك فهو خارج ساعة الزمن.. وهو كائن “سلحفائي” يرتب جريمة “البطء”.. نحن في زمن شعاره “هات من الآخر” !!
وفي هكذا زمن لابد أن تسود ثقافة “التعليب” التي تنسجم مع مقررات “العولمة” القائمة على تصدير كل شيء وفي أقل حجم ممكن ليتحول البشر جميعهم إلى مجرد أفواه مفتوحة.. وتتحول كل الأشياء من حولهم إلى زجاجات للمشروبات الغازية.. جرعة واحدة وترمى في سلة المهملات.. حتى “النكتة” التي كانت تقال على مهل في الهواء الطلق دخلت إلى “الكاسيت” وتحولت إلى كبسولة عند اللزوم!!
عشرات الفرق تحت عناوين “الهيلاهوب ” و”الهمبريب” وغيرها من القائمة الطويلة تحقق في هذه الآونة أعلى المبيعات لفقراتها الخفيفة و المسلية والتي لا يتجاوز مدة عرضها ساعة أو بالكثير ساعة ونصف الساعة.. كوكتيل جاهز للضحك وأحياناً “بوفيه مفتوح” حيث لا وقت لمشاهدة عرض مسرحي كوميدي تكون حصيلته ضحكة أو اثنتين بعد عناء وتفكير وجهد شاق جلوساً أمام خشبة المسرح!
لا شيء الآن يستحق أن يستغرق وقتاً وجهداً.. “هات من الآخر” فالعالم يرقص إيقاعاً سريعاً أقرب “للديسكو” أو “نوبة الصرع” والحذر كل الحذر من “المهلة” التي تسل الروح .. فالمطلوب هو 1+1= 2.. أما إن كنت فيلسوفاً وتريد إقناع العالم بأن 1+1=3 فعليك أن تمارس ذلك أثناء ساعات النوم أو حتى الحلم!!
أما هذا الكتاب الذي بين يديك فعليك أن تعيده إلى مكانه في الأرفف التي غطتها أتربة الزمن.. وأمامك الكمبيوتر الذي يمنحك كبسولة “المعلومة” التي تريدها وهو على أية حال موقع يشهد كساداً فيما تحقق مواقع “التعارف” و”الألعاب” والـ(…) تدفقاً مهولاً يشبه حركة الإعلانات التجارية التي تحاصرك أينما ذهبت .. لو فتحت ” الحنفية” سيخرج لك إعلان الـ… ولو حدقت في المرآة ستقرأ إعلان الـ…. ولو نمت سترى حلمك إعلاناً تجارياً وليس بالضرورة أن يكون مدفوعاً القيمة .
حياتنا تحولت باختصار، إلى سوبر ماركت وعليك أن تأتي بالمال لتشتري أو.. تذهب إلى جهنم .. والمحظوظون فقط من يملكون وقتاً لأشياء أخرى غير فتح أفواههم وتجرع “المشروبات الغازية” التي لا تطفئ نار هذا العالم المتعولم بقدر ما تزيدها سعيراً وترفع من قيمة “ثقافته” الاستهلاكية التي لا تسوى شيئاً على الإطلاق !