(حواتة)..!!
ما شهدته مساء (الجمعة) بشارع المطار من محبي الفنان الراحل “محمود عبد العزيز” يسيء للفقيد أكثر مما يخلد ذكراه؛ إذ حوصرت السيارات وأُجبر الركاب والسائقون على رفع علامة (الحواتة).. شخصياً حينما رفضت ثار في وجهي نحو ثلاثين صبياً؛ هزوا السيارة وهموا بتكسير الأبواب وهم ينوحون: (الجان ملك السودان)، ففر مرافقي (ناقد معجب بالراحل)، واضطررت أنا لرفع يديّ (محوتاً) وشكرت الله أني لم أُجبر على (الغناء)، ثم نجوت بعد تدخل بعض العقلاء منهم!
بدا لي المشهد برمته هستيرياً مثل الليلة التي أُحضر فيها جثمان الراحل من الأردن، حين اقتحم الجمهور ساحات المطار الداخلية ودمروا كل ما وقع أمامهم، في سلوك بدا لي غريباً ولا يتناسب ونبل الحزن وكونه لحظة قوامها الهدوء والسكينة والإحساس بالألم الذي يمنع صاحبه من إتيان حماقة مثل التي رأينا يومها، حينما خُربت بعض أجزاء المطار دونما مبررات موضوعية قبل عام يوم الوفاة.
الراحل “محمود عبد العزيز” فنان كبير ما في ذلك شك، وصوت موهوب وظاهرة في المسار الفني الغنائي بالوطن، وقد شكل وجدان قطاع كبير من الجمهور خاصة فئة الشباب، بل وامتد أثره إلى فئات عمرية أخرى، ولا يختلف وفقاً لهذا اثنان حول الإضافة الكبير لـ(الحوت) في مسيرة الغناء السوداني بما تفوق به الفتى حتى على عمره والظروف المحيطة به، فقد اختار نصوص متينة وألحاناً مميزة، وكان الأقدر من أبناء جيله على إضفاء بصمته على قديم الغناء، رغم أن بعض تلك الأمثلة كانت ربما محصنة بطرائق إنتاجها الأول عند أصحابها، ومن ذاك غناء الحقيبة الذي تعثر فيه الجميع وعثروا إلا “محمود عبد العزيز” فإنه وصل بذاك النوع من الغناء أن أضاف إليه وميزه وجعله في آذان المتلقين الجدد.
سيكون رائعاً لو أن أنصار الفنان الراحل أكرموا (الحاج) بتواصل رزين مع ذكراه السنوية.. لن يكون جميلاً ومشرفاً أن يروع الناس في الطرقات والمسارح بتلك الانفعالات، سيكون وقعها مريراً في دواخل أشخاص، قد لا يكونون (حواتة)، لكنهم أكثر من أولئك تقديراً وقرباً من الفنان الكبير وأعماله ومشروعه الفني، ويجب ألا يستخف أحد بالآثار السالبة لمثل بعض التصرفات ولو كانت عفوية وغير مقصودة، لأنها قد تقوض قواعد المشروع الكامل للسياسي أو الفنان. ومما لا شك فيه أن كثيرين ممن صادفوا هوجة الأنصار المتذكرين لنجمهم مساء (الجمعة)، قد شعروا بحالة استياء وضيق من مثل هذه السلوكيات التي أفقدت مناسبة الذكرى السنوية للرحيل معناها، وكادت أن تحولها إلى مشكل ومصيبة لولا تدارك العقلاء للأمر والمسألة وتعامل الشرطة بتفهم مع الأمر.
أخشى من اندثار هذا المشروع الفني والإنساني النبيل، بفعل اندفاع البعض غير المحسوب في إظهار التعاطف والولاء والانتماء لإنسان كان أهم ما يميزه البساطة الوداعة، ولم يكن قط فظاً مخيفاً للآخرين.