«مدني».. الإبداع و(التقابة) وملهمة الشعراء والمفكرين
(ابتسم أنت في مدينة ود مدني).. عبارة تستقبلك بها بوابة المدينة الممراحة والمرحبة بزوارها ومواطنيها، لأنها تتمتع بسعة صدر قل أن توجد في مدينة أخرى، وهذا يتضح جلياً عندما تلتقي أو تعاشر أهلها الذين رضعوا من صدرها الحنو والإبداع، كيف لا و(مدني) تعد المدينة الأكبر في تفريخ عدد مقدر من المبدعين شعراء كانوا أو فنانين وملحنين، دلقوا عصارة شعرهم على شوارعها وبيوتها يصفونها بالفاتنة والحنينة، كما أنها تضم عدداً من (الضرائح) و(القباب) التي تعتبر سمة مميزة وعلامة فارقة فيها لم تخرج أيضاً من تطويع الشعراء والكتاب لقلمهم وكتاباتهم التي لم تتجاوزها. فضلاً عن كونها تعد واحدة من معاقل الحركة الوطنية حد تبوئها عاصمة للسودان في الحقب الفائتة. كما أنها توصف بمدينة الثقافة والجمال، والحديث عن هذه المدينة لا يحد ولنترك خلال هذه المساحة مجالاً لكتابات الشعراء عنها كل يصفها كما يرى وإبراز مكامن الجمال فيها.
يعود اسم مدينة (وَدْ مَدَنِي) إلى مؤسسها الفقيه “محمد الأمين” ابن الفقيه “مدني السني”، وتلقب (ود مدني) أيضاً، بـ(مدني السُّني)، و(مدني الجزيرة)، كما يطلق عليها اسم (مدني) اختصاراً.
كانت بداية نشأتها في العام 1940م تقريباً، عندما حلّ الفقيه “محمد الأمين” ابن الفقيه مدني الذي يتصل نسبه بـ”عقيل ابن أبي طالب ابن عبد المطلب الهاشمي”، بموقع المدينة وأقام بالمكان الذي توجد فيه قبة الضريح الذي يحمل أسمه (وهو الآن خلوة لتعليم القرآن والفقه)، ثم بدأت الأحياء السكنية تنتشر حوله، وكان أولها حي (المدنيين) الذي كان يقطنه الدارسون والمريدون للفقيه “محمد الأمين”. وقامت بالبلدة خلال تلك الحقبة صناعة القوارب الشراعية، إلى جانب صناعات محلية أخرى كدباغة الجلود وصناعة الأحذية والعناقريب. وخلال العشرين عاماً بعد 1900م أُقيمت محطة للسكة الحديد والمستشفى الذي كان وحدة عسكرية تابعة للقوات البريطانية ومباني رئاسة المديرية والمحاكم والبريد والجامع الكبير على امتداد شارع النيل. ثم بدأ أول تخطيط إسكاني بـ(الحي السوداني) وحي (القسم الأول)، ومنذ ذلك التاريخ شهدت مدينة (ود مدني) نشاطا تجارياً كبيراً وحلت بالمدينة أعداد كبيرة من التجار والحرفيين.
تضم مدينة (ود مدني) المئات من المدارس النظامية بمختلف مراحلها، أشهرها مدرسة (البندر الابتدائية) التي تأسست عام1906 م ومدرسة (الشرقية الابتدائية) حالياً (أحمد عبد العزيز) ومدرسة (ود مدني الثانوية بنين وبنات) و(مدني الأميرية) التي درّس فيها الزعيم “إسماعيل الأزهري”، وهناك مدرسة (ود مدني السني) ومدرسة (حنتوب الثانوية) أشهر المدارس السودانية.
أحشاء المدينة الدسمة
تعتبر (ود مدني) مدينة الفن والفنانين حيث أنجبت عدداً من كبار المطربين السودانيين الذين ذاع صيتهم أبرزهم الفنان “محمد الأمين”، الراحلين “أحمد المصطفى”، “إبراهيم الكاشف”، “عثمان حسين”، “رمضان حسن” و”الخير عثمان”، الذي تغنى بأغنية (حنتوب الجميلة) عند الاحتفال بافتتاح مدرسة (حنتوب الثانوية) عام 1946م، إلى جانب “عبد العزيز المبارك”.
و تتقادم بها السنون ومدينة (ود مدني) تتوالى إنجازاتها وتتمدد صروحها، ففي 13 مارس 1986م تم افتتاح إذاعة ود مدني، من محطة إرسال إذاعي أُقيمت في منطقة (ود المجذوب) الواقعة شمالها، وهي واحدة من المحطات الإذاعية التي قدمت من حكومة (اليابان)، ونظراً لإرسالها القوي فقد ظلت الإذاعة تعمل كبديل لـ(إذاعة أم درمان الرسمية)، وتم بث برامجها إبان الفيضانات التي أثرت على المحطة، فضلاً عن محطة إرسال تلفزيوني باسم (تلفزيون الجزيرة).
مدينة (واد مدني) ورغم إنجابها لعدد من أهل المغنى، إلا أنها تتسم بالروحانيات منذ نشأتها وتشهد سوحها بتمدد عدد كبير من المساجد والزوايا والخلاوى القباب والأضرحة، وتتوشح طرقاتها بأهل الذكر والدراويش ومجموعة من مشايخ الطرق الصوفية المختلفة الذين ينظمون حلقات الذكر ومدائح نبوية وأناشيد دينية. وتمشي جنباً إلى جنب الكنائس لأتباع الديانة المسيحية.
وتعتبر (مدني) مسقط رأس العديد من المشاهير السودانيين من بينهم الفنان “محمد الأمين”، الفنان “أبو عركي البخيت”، “الخير عثمان”، “محجوب عثمان”، “رمضان زايد”، الفنان “إبراهيم عوض”، (ثنائي الجزيرة)، الفنان “عبد العزيز المبارك”، “الرشيد كسلا”، “عصام محمد نور”، الفنان “أمين عمر أمين” و”عمر جعفر”. ليس ذلك فحسب بل استوطنت بها شخصيات تبوأت مناصب رفيعة من بينها رئيس جمهورية أفريقيا الوسطى الأسبق والإمبراطور لاحقاً “جان بيدل بوكاسا”.
أهل المغنى
(مالو أعياه النضال بدني/ وروحي ليه مشتهيه ود مدني/ ليت حظي يسمح ويسعدني/ أجوب في ربوع مدني)
هذه القصيدة تمنح القارئ والمستمع أجمل لوحة تعبيرية تحكي عن أصالة (ود مدني) وترابط أهلها الطيبين الذين يجمعهم حب الوطن والأب الروحي والرمز الصوفي الشيخ “مدني السني” الذي قال فيه “الخليل”:
كنت أزورو أبوي ود مدني/ أشكي ليه الحضري والمدني
كما غنى له الشاعر “جمال عبد الرحيم”
قبة السني وبيوتها/ عامرة حلقات الذكر
ولأنها ملهمة الشعراء، فقد جادت قريحة ذات الشاعر فكتب فيها أجمل الكلمات التي أصبحت دندنة الكثيرين
قول لي مدني الجميلة/ مدني يا أجمل خبر
ثم يذكر في آخر قصيدته أثنين من أهم نجوم الفن بـ(ود مدني) اللذين أثريا الساحة الفنية وملأ الآفاق شعراً وغناءً عندما قال:
تلهم الكاشف يغني/ ويكتب المساح شعر
ومن أبناء (مدني) الذين تغزلوا فيها ونثروا الدرر الغوالي بعض الشعراء المعاصرين الذين ما يزال معينهم يتدفق، الشاعر (المارنجاني) المبدع “حمزة بدوي” الذي كتب عنها رائعته (مدني العظيمة) ويقول فيها:
مدني العظيمة الملهمة/ الرائعة ساحرة وحالمة
الغيم دعاشو منادما/ والنيل عبيرو مسالمة/ سكن الجمال بيها احتمى/ زي تبر جنب ورد ارتمى
هكذا تظل أبداً مدينة (ود مدني) عاصمة الثقافة والفنون، مدينة هادئة وجميلة رغم الإهمال المقصود في البنى التحتية والرأسية، ومع ذلك فهي مكسوة ومتشحة بالجمال الطبيعي.