(بائعات الشاي).. رشفات على إيقاع قصص الحياة والموت!!
كثيراً ما تتردد عبارة (موقع إستراتيجي) في حال أراد الشخص الاستثمار أو التجارة في شيء بعينه، ووفقاً لذلك يتخير المكان المناسب الذي يستطيع من خلاله الترويج لمنتجه أو بضاعته وغيره، و(ستات) أو (بائعات الشاي) إن صح التعبير لسن ببعيدات عن ذلك، وهن الأكثر بحثاً عن أماكن تعج بالزبائن من السابلة الذين يهيمون على وجوههم على مدار اليوم بدواعٍ شتى، لذلك نجدهن دائماً يتصيدن أماكن التجمعات سواء في الحدائق أو المرافق العامة ومواقف المواصلات وأماكن العمل الحكومية والخاصة، وليس هناك مكان أو ظل إلا وتفيأنه يأملن أن يمر عليهن عابر سبيل وما أكثرهم. ولما كان هذا حالهن فلم تسلم حتى المقابر من وجودهن بين الموتى، وأصبحن كما الشواهد، إذ باستطاعتهن أن يوجهن أي ضال عن قبر يخصه لإقامتهن الطويلة في ذاك المكان الموحش والمترع بالتجمعات الكثيفة في آن، حال الوفاة وعند الدفن الذي يؤمه العشرات، فيتضاعف كسبهن في ذاك اليوم لدرجة لا يستطعن فيها كفاية الجمهور.
(المجهر) شاهدت عدداً من النسوة (بائعات الشاي) وقد انتحين جانباً قصياً من مقابر (حمد النيل) بمدينة أم درمان، جلسن تحت مظلات (رواكيب) ما يشي بإقامتهن واتخاذ المكان لممارسة عملهن. وذات الجلسة رصدتها أمام بوابة مقابر (الرميلة)، ولما كان هناك متسع من الوقت جلست (المجهر) إلى الخالتين “آمنة” و”فتحية” بائعتي الشاي، فقصتا كثيراً مما يدور حولهما وترصده حواسهما دون قصد.
{ (CV) الميت بين أيديهما
دون قصد تستمع الحاجة “آمنة” ورفيقتها “فتحية” اللتان ألفتا المكان بينهما فجمعتهما الصحبة والحكي فقالتا إنهما على إلمام كامل ودراية بوفاة أي (شخص) تم دفنه في مقابر (الرميلة) خلال الفترة التي حضرتا فيها إلى المكان والمقدرة بالسنين، وذلك من خلال الرصد الذي يبثه المشيعون الذين يحضرون باكراً قبل وصول الجثمان فينتظرونه وهم يجلسون إليهما ويشرعون في الحديث عن كيفية الوفاة متى.. أين.. عمر المرحوم.. أولاده وزوجته.. عمله ومكان سكنه.. ينشرون كل الـ(CV) الخاص بالمتوفى (السيرة الذاتية) وهم يرتشفون الشاي أو القهوة واحدة واثنتان وثلاث مرات حسب زمن وصول المشيعين. قلنا لهما: معنى ذلك أنكما تكسبان جيداً وكثيراً عندما يكون هناك دفن؟ فقالت “آمنة”: الحمد لله. وسألناهما: ماذا يكون مصير يومكما في حال لم يكن هناك جمع غفير من أجل الدفن؟ وكان الرد، أنهما لا تتوقفان عن عملهما أبداً، فقط يختلف عدد الزبائن من يوم لآخر حسب الوفاة والدفن، وقد يصادف أن تكون هناك اثنتان أو ثلاث جثامين توارى الثرى. وبخلاف ذلك فإن الطريق كما ترون يعج بالمارة.
{ الغرفة المرعبة
المكان برمته يدعو للرهبة، مشوب برائحة الموت التي تفوح من كل جنباته، فهما تجلسان على امتداد المقابر من الجهة الشمالية، وخلفهما مباشرة الغرفة التي تحوي كل أدوات الدفن، فسألتهما ألا تخافان من هذا المكان لا سيما بالليل، فقالت “آمنة”: إطلاقاً فالمكان محروس بآيات الله التي على الشواهد والتلاوة التي تتلى عليهم، فضلاً عن أننا لا نظل حتى المساء، مضيفة: بل على العكس فأنا- الحديث لـ”آمنة”- أسكن حي الأزهري بالخرطوم، وطريقي إلى هذا المكان عقب نزولي من المواصلات دائماً من الشمال إلى الجنوب حول المقابر، وطيلة هذه المسافة التي أقطعها راجلة أرفع كفيّ بالدعاء للموتى.
وتطرقت للحديث عن موقف حدث أمامهما، فأخذت مقود الحديث منها “فتحية” وهي تصف أن فتاتين حضرتا من المشفى في الصباح الباكر وطلبتا (شاي بلبن) ثم جلستا على (البنابر) في انتظاره، وفي الأثناء والخالة تضع الشاي أمامهما سألتا عن الغرفة التي تجلسان أمامها فأخبرناهما بأنها لأدوات الحفر والدفن، فما كان منهما إلا أن أطلقتا ساقيهما للريح وهما ترتعدان مخلفتين الشاي والدهشة.
{ نساء في المقابر
وعن حضور النساء للمقابر عند الدفن نفيتا ذلك الأمر، لكنهما أكدتا حضورهن في العطلات ويوم الجمعة تحديداً يزور عدد من الأسر موتاهم، بعضهم يحضر ماء ويرش بها على قبر من يخصه، يقرأ الفاتحة ويتلو القرآن، والبعض ينثر التمر والعيش والحلوى، وآخرون يحضرون (زلابية) يوزعونها على الحضور. فقلنا لهما: إذن فقد توطدت علاقتكما بهم بحسب تكرار الزيارة وأصبحت بينكم معرفة، فردتا بأنهما لا تعرفان الكثيرات، فقط اللاتي يسكن في الحي أو قربه واللاتي يترددن كثيراً.. وتركناهما بعد أن ترحمنا جميعاً على موتى مقابر (الرميلة)، وموتى جميع المسلمين في مشارق الأرض ومغاربها.