أخبار

آخر وداع

} عندما جلس أعضاء حكومتنا الراحلة.. تغمدها الله بواسع رحمته وأسكنها فسيح كهوف التاريخ.. نظر الوزير (…) إلى الرئيس “البشير” وهو يجلس في مقدمة الصفوف، وتذكر أيام السبعينيات، وكان حينها الوزير طالباً بالجامعة.. في حفلة التخرج تغنى فنان وأطرب حاضريها بأغنية (تودعني وأنا مشتاق ليك كان بدري عليك). سنوات قليلة أمضاها الوزير قريباًً من الرئيس.. فقط (24) سنة، هي لمحة من تاريخ الشعوب والأمم!! مكث غيرنا في المقاعد الوزارية أربعين عاماً في جمهورية الديناصورات، فكيف تهون العشرة على الناس البحبوها؟!
} وزير آخر ارتدى نظارة سوداء معتمة أخفت نصف ملامح الوجه من غير عادته، لإخفاء معالم أمطار غزيرة هطلت على الأهداب والرموش لحظة يقينه بأن الفراق حاصل لو ترضى أو تزعل.. طاف بخاطره المكتب الوثير والسكرتيرة الوفية والسائق الصدوق والحارس الأمين.. فقال مناجياً نفسه (خرجت من ديار محبوبتي ومعشوقتي وملهمتي مثل الطريد ما ودعت خلاً ولا أدركت ثاراتي.. يا لهف نفسي على تلك الكراسي وقد ولت ملذاتي، وتبددت نصف مشروعات عمري.. أنا الذي نصيبي في الوزارة فقط عشر سنوات وبضعة شهور، لم أزر فيها أمريكا إلا مرة واحدة، ولم أمتع نفسي بحقول نهر (الرون) في باريس إلا ثلاث مرات فقط.. ولم أتسلق جبال “الإلب” في سويسرا إلا في إجازة واحدة، ولم أتذوق شهد بغداد وعنب يافا، ولم أؤدِّ فريضة الحج إلا خمس مرات فقط.. خرجت الآن من سعة الوزارة لضيق السوق..هل أنعي نفسي مثل السفير السعودي السابق في لندن “غازي القصيبي”: خمسة وستون في أجفان إعصار.. أما سئمت ارتحالاً أيها الساري)!!
} ووزيرة رأت في منامها، ليلة البارحة، نفسها تقف أمام الرئيس لأداء القسم السابع في عمرها القصير.. عمر الزهور في حدائق النور، وعمر العصافير في الأغصان، كيف تغادر مقعدها ولا يزال خضاب عرسها يزين معصمها، وهي ابنة البيت، خرجت من عصب ولحم ودم التنظيم والحزب.. كيف تهجر عشها وتتركه في هجعة الليل لمن كان في الخصام عنيدا؟!
} والٍ كان منتخباً عبر صناديق الاقتراع نُزعت عنه مشروعية الشعب وألبسوه مشروعية المركز.. كان حاكماً من الشعب وإلى الشعب، ولكن إرادة المركز جعلته حاكماً على الشعب وفي الشعب.. بلغه استدعاء مفاجئ للخرطوم مع آخرين من الأمصار البعيدة.. لم يتركوا له حتى تدبير شؤونه الخاصة وأوراقه.. باغتوه بالاستدعاء وهو ينتظر الآن مصيره.. شكوك في نفسه وهواجس عن العودة أو المغادرة النهائية.. تذكر سائقه الذي كان يبتسم في غير عادته حينما كان يقود السيارة من المنزل إلى المطار.. لماذا استبدل السائق شريط مدائح الشيخ “الجعلي” والشيخ “الشايقي” و”البرعي” بأغنية تقول (لما ترجع بالسلامة وترجع أيامنا الجميلة).. هل كان السائق (سامع من الموت خبر).. فكر الوالي في الاتصال بأمين عام الحكومة واستبدال السائق بآخر.. لكنه تأسى بالصبر على الجرح وإن طال الألم.
} وزير الدولة نحيف القوام.. قليل الإطلالة على وسائل الإعلام، اقترب من الرئيس “البشير”.. اصطنع ابتسامة رضى بالمقسوم، حدثته نفسه بأن يبلغ الرئيس عن زهده في الموقع ورغبته في التنحي نهائياً بعد ثماني سنوات في منصب وزير الدولة، لم يرتق لموقع وزير كامل الدسم أو يخرج، ولكنه خاف أن يأخذ الرئيس ما يقوله بجدية ويشطب اسمه من كشف الوزراء الجدد.. قال في خلجات نفسه للرئيس: (جيت أقول ليك لما تعفيني أبقى عشرة على عيالي كل شهر أديهم طلة)!!
} تناثرت الأشواق ما بين مترقب مقاماً علياً.. وتمددت الشكوك عن مصير شيوخ كان لوجودهم في كرسي السلطة والمسؤولية دور في بقاء النظام على قيد الحياة.. حملوه على أكتافهم وهناً على وهن، وسقوا زرعه بعرق الجبين، فكيف لهم مغادرة كراسٍ ألفوها وألفتهم، أحبوها وأحبتهم، عشقوها حتى غار من عشقهم العشاق، لكنهم الآن يتأسون بالقرآن (وَبَشِّرِ الصَّابِرِينَ. الَّذِينَ إِذَا أَصَابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قَالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَإِنَّا إِلَيْهِ رَاجِعُونَ).

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية