الليل.. سر أنشودة النغم والغناء والشعر والتعبد والتهجد ..!
من أسباب نجاح أو تجويد أي عمل هو أن يتم إنجازه في التوقيت والزمن الذي يناسبه، والوقت يرتبط بصورة عميقة مع الحالة النفسية للإنسان، ونجد أن الكثير من المبدعين يتخيرون الأوقات التي تتناسب مع أمزجتهم؛ لذلك دائماً ما تأتي أعمالهم في قمة الروعة. والليل من الأوقات التي تتسع فيها المساحات للتأمل والتدبر، بخاصة أوقات السحر الأخاذة فيه، حيث يقضي الجميع أوقات سمر قريبة من النفس والإيمان والتعبد العميق، ولليل جماله وبهاؤه وأرقه وهمومه، بجانب نوره وكدرته فهو وقت لعوالم تتشكل لدى الكثيرين وتتباين ما بين الإلفة والحرمان والفرح والحزن إلى آخره.
سر الليل عند العشاق والمتصوفة..
الكل يرتاح لليل لسكونه وجماله، ففيه تتجلى العبادة ويبدأ عقل الإنسان بالتفكير والتأمل، كما ينسجم فيه العشاق، وتهدأ فيه النفوس المتعبة من الظلم والقهر وتخفق فيه القلوب المرهفة بحنو ينساب بهدوء ويتدفق ليريح الأعصاب، الليل من نعم أوقات الله علينا إذ قال تعالي “وَجَعَلْنَا اللَّيْلَ لِبَاسًا” فيه متعة الخلد للنوم والأحلام والاستيقاظ لحياة وأمل جديد. والليل ملهم حقيقي ومفيد للمؤمن والتقي والكاتب والأديب والشاعر والفنان والإنسان الذي تكون روحه مفعمة بالمعاني القيمة، وعنده تختلف الحياة وترتسم ملامحها، ونجد أن الكادر، الحالك والداجي هي أسماء لليل عند العرب الذين يعشقونه.
الليل وشكاوى العاشقين ..
ولكن لليل وقفات وسكنات وضجيج وحياة فريدة للكثيرين، لابد وأن نشير إليها، وكونه حير قلوب العاشقين، لنقف عند الأغنية الشجية:
(تعال يا ليل خليك معاي
عايز أشكي ليك سهدي وأساي
عايز أشكي هجر الحبيب
السابني راح يا ليل براي
مناي كان يا ليل حبيبي يكون معاي
يسهر معاي يا ليل معاي
حتى الصباح يسمع غناي
وهي أغاني المطرب الرقيق صاحب الكثير من الليالي الحالمة في كثير من أغنياته التي منها: (الليل الهادئ) و(ستار يا ليل وتعال يا ليل) الأستاذ شرحبيل أحمد، ويليه غناء البلابل الطرب الأصيل:
(في ليل الشجن والشوق سألت عليك وناجيتك وما رديت)، والملاحظ أنها تساؤلات للحبيب، إذن الليل يحسسك بفقد الحبيب أو من يكون قريبا لنفسك.
وتغني الجابري بالليل:
(الليل يهوم بي ويبقى ورد أخير)..
وتمضي كلمات الأغنية الرقيقة لتؤكد أيضاً أن الليل يذكر بالمحبوب وجاء فيها: (حبك يا جميل ساهر بي والدنيا ليل.. طول الليل أنا ما بنوم وبطراك بعدد النجوم).
والليل أنيس العاشقين و المحرومين من وصال أحبتهم:
وفي أغنية العندليب زيدان:
(عشت مع الليالي لا حب لا نغم)
وللشعراء والأدباء انسجام وتعلق وعشق لليل، فمن رحم ظلمته تتولد أشعارهم العميقة، وكتاباتهم، والعرب من أبدعوا في الكتابة عن الليل، ولعل أشعرهم المتنبئ.
وأيضا الليل ملهم لقرائح الشعراء، ونظرتهم إليه مختلفة فامرؤ القيس الشاعر الجاهلي صاحب أشهر المعلقات يرى الليل كموج البحر تلقي شطآنه عليه كل أنواع الهموم كما جاء في قصيدته:
وليلٍٍ كموجِِ البحرِِ أرخى سدولََه.. عليَّ بأنواعِِ الهمومِِ ليبتلي
فقلتُُ له لما تمطي بصلبه .. وأردفََ أعجازاً وناءََ بكلكلِِ
ألا أيها الليلُُ الطويلُُ ألا انجلِِ .. بصبحٍٍ وما الإصباحُُ منك بأمثلِِ
والمتنبئ كتب في كثير من قصائده ذاكراً الليل، ومادحاً فيها نفسه ببلاغة وحسن تصوير:
الخيلُُ والليلُُ والبيداءُُ تعرفُُني .. والسيفُُ والرمحُُ والقرطاسُُ والقلمُُ.
والشاعر الرقيق أبو القاسم الشابي بدأ في رائعته (صلوات في هيكل الحب) موجهاً نداءً هامساً أسر به لحبيبته التي هي فوق الشعر والنهى والوجود، حينما قال:
عذبةٌٌ أنتِِ كالطفولةِِ كالأحلام ..كاللحنِِ كالصباحِِ الجديد
كالسماء الضحوك كالليلة.. القمراءِِ كابتسامِِ الوليد.
ولعل شاعرنا الفذ التجاني يوسف بشير قد كتب شعراً رصيناً، وذكر فيه الليل عند قصيدته (عجيب أنت يا قلبي) جاء فيها:
وفي عينيهِِ مستذرى ومأوى.. لروحي وهي هائمةٌٌ حريب
أصدُّ بفعل سحرهما الليالي.. فيمنع جانبي السحر الرهيب.
ونحن الآن بصدد فصل الشتاء الذي تطول لياليه، حيث تحلو فيها المؤانسة والسمر لأوقات طويلة قبل الخلود لمتعه النوم.
الليل عالم جميل، كلٌٌ يفكر فيه بطريقته، المتعبِِّدُ والعاشقُ والشاعرُ والحائرُ، وكلٌ يلتقي في أنه يستريح فيه.