الإذاعة السودانية.. بوابة التاريخ الإعلامي ونافذة الفنانين المشرعة
في فترة ليست ببعيدة، كان المذياع أو الراديو هو أحد أدوات الترفيه وتزجية الوقت، يملكه قلة من الميسورين، وهو على قلته ومحدودية برامجه، إلا أنه كان بمثابة نادٍ جامع لأهل الحي، يتحلقون حوله مبهورين بالحدث والتكنولوجيا حينذاك، يرهفون السمع ليلتقطون الخبر، ثم يخضعونه لعملية تشريح، يستمتعون بأغاني الزمن الجميل، يحفظونها عن ظهر قلب، يعشقون سهراته وبرامجه الترفيهية والدرامية. كانت أشكاله مختلفة منها ما هو على هيئة صندوق كبير، وبعضه صغير يتم وضعه في وعاء جلدي لحفظه و(أريله) مشرع يلتقط ويوجه الموجات، يكاد هذا النوع لا يبارح أذن صاحبه، وربما تأخذه الغفوة تاركاً بقايا نغمات أو مدائح أو نشرة إخبارية، على أن المحرك لتلك التقنية وقتها هو (أحجار البطارية)، وما زال استعمالها رائجاً إلى الآن في بعض المناطق لذات الغرض وغيره، هذا بعد أن كان الراديو يوزع إليهم في الميادين مجاناً.
والإذاعة السودانية ومذيعوها لهم تاريخ حافل، وروادها هم أهل عطاء غزير أثروا به أضابيرها ومحافلها، ورغم وفاة بعضهم وتقاعد آخرين، إلا أن أسماءهم ما زالت تبرق حال الحديث عن الإذاعة (زمان).. فإلى ذاك التاريخ بحسب عدد من المواقع
هنا أم درمان
انطلقت الإذاعة السودانية لأول مرة في العام 1940م من غرفة صغيرة بمباني البوستة لخدمة الأهداف الإعلامية لجيوش الحلفاء في حربهم ضد دول المحور، وقد وزعت مكبرات الصوت في بعض ساحات أم درمان الكبيرة لتمكن أكبر عدد من المواطنين بمدينة أم درمان من الاستماع إلى الإذاعة التي كانت تبث نصف ساعة يومياً من الساعة السادسة مساء إلى السادسة والنصف، تقدم خلالها تلاوة من القرآن الكريم ونشرة خاصة بالحرب وأغنية سودانية بواسطة مكبرات الصوت للجمهور الذي كان يتجمع في (ميدان البوستة).
وكادت الانطلاقة تكبح عندما وضعت الحرب أوزارها لولا تدخل المستر “إيفانس” وحصوله على تصديق ميزانية لإذاعة تتبع لأول مرة لحكومة السودان البريطانية وتظل في خدمة أهدافها حتى الاستقلال، لتبدأ بعد ذلك مشواراً آخر بأهداف أخرى.
تقلب في مقاعدها وأمسك بميكرفوناتها عدد من المذيعين على أولهم كان الأستاذ “عبيد عبد النور” الذي عُين رسمياً بالإذاعة السودانية في العام 1940م وهو من ردد مفردة (هنا أم درمان) وسميت بها، ثم صارت شعاراً لها فيما بعد.
ثم تنقلت الإذاعة في عدد من المقار، ففي العام 1942م انتقلت من البوستة إلى منزل مستأجر غرب مدرسة الدايات، يقف أمام مبنى البوستة بأم درمان، وبدأت تبث على موجة متوسطة (24 متراً)، أما التوسع الرأسي والأفقي فزادت مساحة البث اليومي إلى ساعة واحدة، لتبلغ في العام 1962م بعد الاستقلال سبع عشرة ساعة يومياً. وفي العاشر من يوليو 1969م بدأ مشوار آخر عرف بالإذاعات الموجهة، كما زاد عدد الاستوديوهات.
النافذة الوحيدة للفنانين
ولما كان السودان متعدد الثقافات متباين الأعراق، ثر التراث وجدت الإذاعة السودانية متسعاً إبداعياً كبيراً للتنقل عبر برامجها في مساحات فنية لونتها الاختلافات الجغرافية والاجتماعية، فكانت المحصلة أن صارت (هنا أم درمان). والتفت الناس إلى إبداعات فناني أم درمان، جاء أولاً السبعة الكبار كما عرفتهم الأوساط الفنية (إبراهيم الكاشف، حسن عطية، أحمد المصطفى، عبد العزيز محمد داؤد، عثمان الشفيع، عثمان حسين، عبد الحميد يوسف) وجاء بعدهم “إبراهيم عوض”، وصارت الإذاعة النافذة الوحيدة التي يطل عبرها الفنان ويجد الشهرة في ذلك الوقت.
لعل الآن واقع الإعلام ينبئ ويؤكد عظم المكانة التي شغلتها المرأة وهي تخطو كما خطى الرجل في كافة ميادينها، بل أصبحت مبرزة فيها وذلك من خلال تناسلهن من ظهراني نظيراتهن الرائدات الأوائل، ورغم صعوبة الإقبال على هذا المجال حيث كانت الأسرة السودانية تحجم عن تقديم بناتها للعمل في الإذاعة، ولكن بفضل جهود الإداريين وعلى رأسهم السيد “عبد الرحمن الخانجي” الذي قدم واحدة من أسرته لتعمل في مجال تثقيف وتنوير المرأة من خلال دردشة يومية كنواة لبرنامج الأسرة، فكانت الإذاعية “صفية محمود” والتي تزوجت لاحقاً بالإذاعي “يس حسن معني” وهي أول صوت يقدم برنامجاً إذاعياً يخدم قضايا الأسرة، فكانت لها الريادة في هذا المجال، حيث قدمت فقرة (حبوبة فاطمة) وشاطرتها التجربة، لكن في مجال الغناء “فاطمة طالب إسماعيل”.
رائدات الإذاعة السودانية
كما تعد الأستاذة “سكينة عربي” واحدة من رائدات النساء اللاتي التحقن بالإذاعة السودانية، وكان لها نشاط منتظم فيها عبر (ركن الأطفال) و(ركن المرأة)، تعاونت في بداياتها مع الإذاعة السودانية في برامج المرأة، وظلت تقدم فيه فقرات متنوعة واستمرت في تقديم برنامج المرأة لمدة أربع سنوات في الفترة من 1964م – 1968م، وعملت بقسم المذيعين قارئة لنشرة الأخبار، ثم برزت أسماء مثل بنات المغربي (سهام وهيام وليلى) و”سعاد أبو عاقلة” و”محاسن سيف الدين” وغيرهن من المبدعات، رائدات كن أم معاصرات.
وعرف الناس الدراما على نطاق واسع، وحفظت الذاكرة أسماء المسلسلات والتمثيليات الشهيرة (خطوبة سهير)، (دربكين)، (الدهباية)، و(أبو جاكومة)…..الخ.. خرج الميكرفون من استوديوهات الإذاعة لأول مرة في العام 1951م وكانت الإذاعات الخارجية محصورة على نقل مباريات كرة القدم.
ومن المديرين الذين تعاقبوا على (إذاعة أم درمان) “مستر فنش دوسون”، “حسين طه زكي” وأول مدير وطني “محمود الفكي” وتوالى عليها كثر من “محمد عبد الرحمن الخانجي”، “خاطر أبو بكر”، “الصاغ” و”محمود أبو العزائم” وما بعدهم إلى عهد “معتصم فضل عبد القادر” الحالي.