مشقة الترحال
يبدي بعض المسؤولين تبرماً وضيقاً واضحاً من الرحلات الشاقة التي يقوم بها نائب رئيس الجمهورية “حسبو محمد عبد الرحمن” إلى الولايات البعيدة القصية، ولكنهم مجبرون عليها، إذا كان الرجل رفيع المقام هو من يتحمل رهق السفر ومشقة التجوال في مناطق لم تطأها أقدام مسؤول من قبل منذ استقلال السودان، ومثال على ما نقول منطقة قمة جبل مرة، حيث أمضى نائب الرئيس ليلة (الاثنين) في رئاسة محلية وسط جبل مرة مدينة “قولو” التي منها انطلقت شرارة التمرد الذي احترقت به البلاد جميعها، كانت الزيارة لمنطقة “سرونق” تكشف عن عزيمة لا تلين وإصرار على التغيير والتعمير في ظروف غاية الصعوبة، حيث لا بنيات تحتية ولا مقومات تنمية رغم ثراء المنطقة، وفي رحلة محفوفة بالمخاطر الأمنية توغلت قافلة الوفد الرئاسي إلى قمة جبل مرة، حيث سيطرت القوات المسلحة العام الماضي على “سرونق” التي كان “عبد الواحد محمد نور” يباهي أن الجيش الصيني لن يستطيع الوصول إليها، وربما كان ما يقوله صحيحاً، ولكن الجيش السوداني وصل إليها واستولى عليها، لذلك كان الفريق “علي سالم” وزير الدولة بالدفاع أكثر الوزراء المرافقين لنائب الرئيس نشوة بتلك الزيارة والمقاتلون الأشاوس مرابطون في الثغور يسهرون الليل في ظروف صعبة ومرتب قليل من أجل أن نمضي نحن ليلة رأس سنة هادئة في الخرطوم، ونلعن الحكومة إذا انقطع التيار الكهربائي ومواطن سوداني مثلنا ينام هناك تحت لسع البعوض والبرد القارص ولا يمكن الوصول إلى “سرونق” وكل محليات وسط وغرب جبل مرة عبر خدمات الهاتف الجوال، لأن تلك المناطق ترفض شركات الاتصالات وصلها ببقية أنحاء العالم، بحجة أنها غير رابحة، وشركات الاتصالات تحصد المليارات من المواطنين، ولكنها لا تضحي بالقليل من المال منذ أن حطت قافلة نائب الرئيس في منطقة جلدو حيث تحدث “حسبو” بلغة الفور لمواطنيها، وهو الذي نشأ في طفولته هناك، وقد بدت على المواطنين العاديين النشوة والنساء يرقصن طرباً لحديث مسؤول كبير بلسان المواطنين. منذ وصولنا هناك توقفت الهواتف عن الرنين وأصبح هاتف الوزيرة “سمية أكد” في وضعية الصامت، وكذلك كل الوفد الكبير الذي تحمل مشقة رحلة قاسية إلى مناطق بعيدة، ولكنها ضريبة الوطن يجب أن يؤديها المسؤولون عن حياة المواطنين ومعاشهم. سألت أحد المرافقين لنائب الرئيس من الرحلة ومشقتها، لم يخف ذلك الوزير تبرمه من العنت الذي واجهه طوال اليومين في تخوم دارفور، وأن اجتماعات عديدة في الخرطوم قد ألغيت بسبب هذه الرحلة الصعبة، فقلت له تريدون الحكم والسلطة ولا تريدون خدمة هؤلاء المواطنين التعساء ولا تقديم خدمات لهم وترفضون التمرد وتستنكرون الاحتجاج ولا تريدون حل المشاكل التي تؤدي إلى التمرد من يريد سلطة ناعمة وعيشاً سهلاً ومركباً فاخراً عليه بدفع الثمن ينام ليلة، بل ليال مثل ما فعل النائب “حسبو محمد عبد الرحمن” في “قولو”، ينام مع الناس في بيوت عادية من الطين ولا تتوفر فيها خدمات كهرباء ولا كل وسائل الترفيه حتى الإذاعة لا تصل هناك ولا تلفزيون ولا أي شيء.
لقد تحملت بنات المؤتمر الوطني “سمية إدريس أكد” وأختها “مشاعر الدولب” مشقة فوق طاقتهما ولمدة ثلاثة أيام في تلك التخوم البعيدة في زيارة حصاد ثمراتها يجب أن تعم ولاية وسط دارفور التي يقودها الشرتاي “جعفر عبد الحكم” بحكمة وصبر، و”جعفر” وال متفق عليه من قبل أهله، والذي ركب الصعاب ونجح في استمالة أغلب قادة التمرد للسلام وترك لـ”عبد الواحد محمد نور” حفنة قليلة من القيادات لا تزال متمردة، ولكن في الرحلة لجبل مرة كان برفقة نائب الرئيس بعض قادة التمرد السابقين الذين اتخذوا مواقف شجاعة في الفترة الماضية، وأعلنوا العودة، وتلك من دلالات استقرار دارفور، وأن السلام هناك حقيقة وليس وهماً وشعارات، ولكن الحكومة تواجه تحدٍياً كبيراً جداً في مسألة استدامة السلام وتلبية احتياجات المواطنين العائدين من التمرد، هي احتياجات تنموية وخدمية بحفر آبار لتوفير مياه الشرب وفتح المدارس ليتعلم الأطفال وتوفير الدواء المجاني وتشييد الطرق المعبدة لقتل التمرد الذي ينمو في مناخ التخلف ويموت بالتنمية والعمران. وجبل مرة ليس في حاجة لقوافل البسكويت والزيت والأباريق، ولكنه في حاجة لاستنهاض الهمم ودفع مال حقيقي لإسناده ، والحكومة المركزية تملك المال، ولكنه يبدد في الفارغة والمقدودة صرف على مؤتمرات لا قيمة لها ولا جدوى منها ومناطق مثل جبل مرة لا تجد حتى القليل جداً، ولكن العزاء أن هناك عزيمة لمسؤولين كثر في تغيير الواقع وزيارة “حسبو محمد عبد الرحمن” نائب رئيس الجمهورية هي واحدة من نسمات العافية ودفقات الأمل لجسد مثخن بالآلام.