أخبار

ذاكرة المطر البيضاء!!

ما اسمك؟؟ كي تنسى لابد أن تتذكر جيداً.. هيا تذكر.. رقم المنزل.. رقم جواز سفرك.. رقم بطاقتك الشخصية.. بطاقة العمل.. لوحة السيارة.. رقم هاتفك.. لا تحفظ رقم هاتفك وتريد أن تنسى.. لن تنسى أبداً!!.. لأن رقم هاتفك لن يعرفه أحد وستكون معزولاً عن العالم.. والعزلة مدعاة للتذكر.. حين تكون وحيداً لن تجد معك إلا الذكريات.. هيا قل لنا ذكرياتك.. أين ومتى ولدت؟!! ماذا درست وعملت؟!! هل أحببت؟ ومن أحببت؟!! تزوجت من أحببت أم غيرها تزوجت؟!! إلى هذا الحد لا تذكر شيئاً وتتمنى النسيان؟!! بل أتذكر فصيلة دمي.. أظنها (A) لا.. (O)، بل (C).. لا أذكر لكنها مكتوبة في البطاقة.. دع البطاقة الآن وقل لي شيئاً آخر ما زلت تذكره؟ هل تذكر أصدقاءك؟ أيام الطفولة؟ الطفولة.. أجل الطفولة هي التي أتذكرها.. الطفولة.. كنت أحب المطر وأخاف النهر.. النهر الذي أغرق كثيراً من صغار القرية.. القرية التي تصحو وتنام على الفقد.. لكني أحب المطر.. لم يحدث أن أغرق أحداً عدا فيضان ذلك العام الذي هدم بيوت قريتنا وجعلنا نزحف مكرهين إلى المدينة.. المدينة التي لم أحبها.. توقف عند هذا الحد وقل لي لماذا وكيف تتذكر كل هذه التفاصيل القديمة ولا تتذكر شيئاً من ما هو أقرب زمناً إليك؟! ربما لأنه أبعد من نفسي.. أحذرك: الذي يريد أن ينسى لابد أن لا يتفلسف.. والآن قل لي هل تحفظ الشعر؟! رائع.. هل تريد أن تنساه أيضاً؟! جميل.. فعدم نسيانك للشعر سيساعدك في نسيان أشياء كثيرة لا معنى ولا قيمة لها.. هيا اسمعني بعضاً مما تحفظ.. يقول شاعر لا أذكر أسمه: الخيل والليل والبيداء تعرفني والسيف والرمح والقرطاس والقلم.. عجباً لك تحفظ هذا البيت ولا تعرف شاعره، وهو الذي ملأ الدنيا وشغل الناس!! تقصد “المتنبي” أليس كذلك؟ أعرفه لكني أشك في صحة نسب هذا البيت إليه.. ومن تعتقد قائله؟ أنا.. أنت؟!! لأنني ببساطة لا أتذكر من الذي أسمعني له أول مرة.
لقد أتعبتني معك.. هل تريد أن تنسى أم تتذكر؟!! نصيحتي لك أن تعرف ما الذي تريده على وجه الدقة والتحديد.. عليك الإجابة عن ما أطرحه عليك بشكل مباشر.. الرمز يعقد المعنى ويجعل النسيان مسألة معقدة ومستحيلة.. هل تذكر أول مرة في حياتك تركب فيها الطائرة وإلى أين كانت وجهتك؟!! طبعاً أذكر ذلك جيداً.. في الشهر الثامن من العام الثامن.. تلك الطائرة التي نقلتني وأسرتي وأهل قريتي إلى المدينة.. كلنا عشنا وقتها الهلع.. الفيضان الذي اجتاح الأرض.. والطائرة المعلقة في الهواء.. هذا يكفي.. ذكرياتك مؤلمة إلى هذا الحد!! سنطوي هذه الصفحة.. حدثني عن الحب الذي حاولت أن تهرب من سيرته؟!! الحب.. ماذا أقول عنه.. هو الحب.. أتذكر فيما أتذكر أنني أحببت الحب الذي ترعرع بين أبيات شعر “نزار” وسطور “إحسان عبد القدوس”.. لكنني لاحقاً اكتشفت أن الحب ليس قصيدة أو رواية بل تجربة تتشكل خارج اللوحة، لذلك فهي أجمل وأقسى في آنٍ واحد.. عدت مجدداً للألغاز.. قل لي قصة عشتها أنت وليس سواك؟!! لن ترد.. حسناً.. لماذا ما زلت تنسى رقم هاتفك.. ألم أقل لك إن ذلك سيجعلك معزولاً ووحيداً ومن ثم ستنشط ذاكرتك أكثر.. هيا ردد رقم الهاتف مراراً وتكراراً حتى تحفظه جيداً (.. 93).. رائع.. هيا أكمل (.. 935).. أحسنت.. أكمل.. عفواً ولكني تذكرت الآن أنني قطعت خدمة الهاتف منذ زمن طويل.. أنت متعب.. سأنصرف.. لن ألعب معك هذه اللعبة السخيفة.. ذاكرتك خربة وليس لديك ما تتذكره لتنساه.. أرجوك لا تنصرف.. سأعترف لك بشيء مهم وخطير: أنا أحفظ كل شيء عن ظهر قلب ولا أريد أن أنسى شيئاً مطلقاً.. فمهنتي أن لا أنسى.. وما مهنتك؟!! مهنتي: مبرمج حاسوب.. عدت ثانية للعب.. بل هي الحقيقة.. لقد أصبحت ذاكرتي رقمية كالحاسوب تماماً.. أحفظ كل شيء.. لماذا لا تحفظ إذاً رقم هاتفك؟!! في زحمة الأشياء المبرمجة الكثيرة التي أحفظها نسيت كل شيء متعلق بي.. صدقني لا أحفظ شيئاً من أرقامي الخاصة ولا أتذكر من هم أصدقائي ولا اسم المرأة التي أحببتها.. عذراً لكن هل أنا سبق وأن أحببت؟!! تسألني أنا وأنا الذي كنت لتوي أسألك.. معتوه أنت أم مغفل؟!! لا داعي لهذه اللهجة.. هل نسيت أنك مجرد (زبون) للمحل وجئت كي تشترى حاسوباً!! كدت أنسى ذلك.. لكن ما الذي كسر الحواجز بيننا إلى هذا الحد وأقحمني في حياتك الخاصة وأرقامك الشخصية؟!! كنت أشرح لك كيفية عمل ذاكرة الحاسوب فإذا بك تسألني عن ذاكرتي.. لقد ظللت تسألني عن كل شيء فهل تسمح لي أن أسألك أنا هذه المرة؟!! تفضل.. هذا لا يزعجني.. ما أسمك؟ ما هو رقم منزلك؟ رقم جوازك؟ بطاقتك الشخصية؟ بطاقة العمل؟ لوحة السيارة؟ رقم هاتفك؟ لا تحفظ رقم هاتفك وتريد أن تنسى يا لك من متفائل كبير.. كي تنسى لابد أن تثرثر في الهاتف كثيراً وأن لا تخلو لنفسك أبداً.. انغمس في ضجيج الحياة.. صادق كل من تجده في طريقك.. كن اجتماعياً بطبعك.. انتشر في كل العالم من خلال هذا الحاسوب الجديد الذي اشتريته الآن.. حتماً ستنسى كل شيء.. فقط إياك أن تنسى دفع ثمن الحاسوب الذي اشتريته الآن!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية