الأغنية الشبابية.. (هبوط) بالكلمة إلى مفردات غريبة!!
اختلاف كبير وفرق شاسع بين الذوق العام لحقبتين زمنيتين، تفصل بينهما سنوات لا تتجاوز العشرين، وخلال هذه السنوات تأرجح ميزان الأغاني ما بين الرصين والهابط، وبالعودة إلى أزمان ليست بعيدة، نسترجع خلالها الصور الجمالية للأغنية السودانية، واحتشادها بكل المعاني الرفيعة والقيم الأصيلة والمضامين الجميلة والمفردة البليغة .
أما الآن إذا نظرنا بتمعن في أعماق أغنيات اليوم، نجد أن التحول الكبير في إيقاع المجتمع، جرف منها (الكلمة الحلوة والمعاني السامية).
وهذا بالفعل ما سنلاحظه عبر هذا التقرير الذي أردنا أن نسلط به الضوء على المتغيرات، التي طرأت على بناء الأغنية السودانية وجعلتها تسقط في دائرة الهبوط.
والمتأمل لمعاني كلمات الأغاني السودانية في حقب ماضية، يلاحظ المستوى الرفيع في تناول المعاني والمضامين مقارنة بأغاني اليوم. وهناك مئات بل وآلاف من الروائع الغنائية التي يمكن أن نستشهد بها، وعلى سبيل المثال نأخذ هنا بعضاً من أغنيات الزمن الجميل، التي كانت تعبر عن قدسية وخصوصية العلاقات العاطفية، والحفاظ عليها بعيداً عن عيون العوازل مثل أغنية (بخاف) التي تغنى بها الفنان الكبير أبو عركي البخيت ويقول مطلعها :
بخاف أسأل عليك الناس وسر الريدة بينا يذيع
أخاف أكتر كمان يا غالي من ايديا انت تضيع
وأعيش بعدك حياتي جفاف
وهذه الأغنية التحفة (بخاف) يقابلها من أغنيات زمن الهبوط الذي سادت فيه الجرأة وقلة الحياء، وظهرت فيه عبارات لا تليق بسمو الحب وقدسيته، ومثال لذلك أغنية يرددها مطربو هذا الزمان تقول:
(قدام الناس بريدو ما بريدو انا بالدس)
ومن أغنيات الزمن الجميل الوصفية، التي شبه فيها الشعراء المحبوبة بتشبيهات مستمدة من جمال الطبيعة والبيئة، كما ورد في هذه الأغنية:
سمحة وسمرية محبوبتي لفتاتا غزالة
وهذه الأغنية يقابلها من الأغنيات الهابطة تلك التي يصفون فيها البنت بعبارات على شاكلة:
سماحة جد ما خمج
نجاضة تمرض مرض
وإذا أتينا الأغنيات التي كانت تعبر عن اللوعة والشوق والعذاب اللذيذ لحظة انتظار الحبيب، نجد رائعة مطرب العشاق هاشم ميرغني
غيب وتعال تلقانا نحن يانا نحن
لا غيرتنا الظروق ولا هدتنا محنة
وهذه الرائعة للأسف يقابلها:
الفي ريدو فرط دقس
يجي غيرو يعمل مقص
ومثال أخير من أغنيات زمن الأصالة والنغم الجميل، التي تظهر فيها لغة حوار رفيعة بين المحبين في لحظات الخصام والعتاب، نجد ذلك في رائعة الموسيقار محمد الأمين :
مصيرك بكره تتعلم
وتعرف كيف يكون الريد وليه الناس بتتألم
وإذا هبطنا إلى واحدة من أغاني الخصام في هذا الزمان نجد الآتي:
تلف وتلف وتجيني مذلول هنا
وإذا أتينا إلى قيمة التسامح التي كانت مثل الروح لكل أغاني العصر الذهبي، فكانت رائعة الفنان العملاق عثمان حسين :
مسامحك يا حبيبي مهما قسيت عليا
قلبك عارفه أبيض وكلك حسن نية
وهذه الأغنية النبيلة تقابلها من أغاني اليوم:
ح اخلي يومك كله هم وأيام هناك متعسرة
ولو فيك قام شتل الفرح بقلع جذوره بكسرا
في بداية استطلاعنا حول هذا الموضوع التقينا بطالبة الماجستير آمال، التي قالت لكل جيل سمات ومميزات، والأجيال السابقة استمدت تعابيرها من البيئة التي حولها وكذلك الجيل الحالي، وأضافت لا يوجد غناء هابط يكفي أن هذه الكلمات تعبر عن فئة محددة ولها شعبية كبيرة جداً .
أما المطربة آية أكدت أن الجمهور في الحفلات يطالبها بالأغاني المسموعة حالياً، أي الهابطة في نظر الكبار، ونسبة لالتزامها باتفاق مالي ليس لديها خيار. وأكدت أن هذه الألفاظ متداولة في الحياة اليومية بين الشباب في السوق أوالبيت، وحتى الجامعات مثل يا منقة والموضوع ما خطير وغيرها .
الأستاذ أسامة حمزة معد ومقدم سهرة أماسي الحنين بـ(إذاعة المساء) قال في إفادته:
إن الفنون والثقافة هي عنوان المجتمع وروحه، وفكرة المجتمع قائمة على التحول الثقافي سلباً أو إيجاباً. وفي ظل الانفتاح على العالم أصبحنا أكثر اهتماماً بالأغنية المصرية والخليجية، وهي ذات إيقاع راقص وانعكس هذا الاهتمام على ثقافتنا.
وختم حديثه بأن الجيل الحالي سطحي في تناوله لمواضيع بعيدة عن ثقافتنا .
العم أحمد سائق تاكسي وصف أغاني هذه الأيام بالكلام الفارغ الذي لا معنى ولا قيمة له، وأشار إلي أن معظم الفنانين الشباب الذين سيطروا على الساحة، ظهروا على أكتاف أغنيات الغير ثم ملأوا الساحة بالهبوط.
ومن جانبه قال الأستاذ الفنان “إسماعيل حسب الدائم”، قدمت أغنية (ما تزعل لو غلطت مرة عليك) في مناسبة زواج في عام 76 فكانت سبباً في إصلاح ذات البين بين أسرتين عريقتين كانتا متخاصمتين لأكثر من خمسة أعوام، أما أغنية (حبيب قول لي راجع) أعادت مياه الحياة الزوجية إلى مجاريها بين زوجين كانا منفصلين لعدة أعوام، وحدث ذلك أيضا في مناسبة زواج. وأضاف “حسب الدائم” بأن هذه الشواهد تؤكد بأن الغناء في السابق كان يحمل رسالة وقيماً اجتماعية عالية، ويساهم في معالجة قضايا المجتمع . و كلمات الأغاني كانت تعبر عن المشاعر بكل صدق. وقال أما الآن الغناء وصل إلى مرحلة الحرب والدمار، وظهرت أغنيات على شاكلة أضربني بـ(مسدسك) و(القنبلة) و(رجع لي حاجاتي).
أما الشاعر والكاتب الصحفي الأستاذ “سعد الدين إبراهيم”، أوضح بأن الأغنية السودانية مرت بعدة مراحل: الحقيبة، الحديثة والشبابية، وأضاف الأغنية في بداياتها حاولت التطرق لقضايا غير العاطفية، فتغنوا لست البيت والجيش، وفي فترة الاستقلال ظهرت الأغنية الوطنية، ومع التقدم ظهرت الأغنية الاجتماعية وأغاني الدعم والتنمية، وأخيراً الأغنية الشبابية بداية بـ(سنتر الخرطوم) التي انتقدت المجتمع بجميع جوانبه بطريقة شبابية. وأضاف أن الإنتاج الجميل للشعراء موجود، ولكن للأسف الإعلام لا يتناوله إلا في بعض المناسبات.
الفنان الشاب “محمد حسن حاج خضر” قال الغناء في كل دول العالم لا يسير على وتيرة واحدة، لأنه لا ينفصل عن حركة المجتمع، ولذلك نجد الأغاني أصبحت تحمل مضامين تتماشى مع لغة الشارع، كما أنها صارت قصيرة وسريعة بالمقارنة مع الأغاني في الماضي، عندما كانت الحياة بطيئة وتتميز بالبراح والناس رايقة والحفلات تمتد لست ساعات، أما في زمننا هذا الحفلة هي المتنفس الوحيد وزمنها لا يتجاوز الساعة أو ساعتين، وكل هذا أثر سلباً على الغناء كقيمة إبداعية، ولكن رغم ذلك ظلت بعض الأغنيات محافظة على قيمتها وروعتها، وفي ختام حديثه وجه رسالة إلى من يهمه الأمر، لكي يبحثوا عن علة الأغاني ويجدوا لها الدواء.
مقارنات معدومة!!