بسم الله الرحمن الرحيم
إشراقة سيد محمود
بكائية في رحيل صلاح مكي
ذلك البيت الوطن
وتلك الأيام
( الشريف زين العابدين .. سينصفك التاريخ )
بالأمس رحل عن الدنيا الفانية السيد/ صلاح مكي
سيد بيت الاتحاديين ،الصديق العزيز والاخ الكريم للشريف زين العابدين الهندي ،
عليهما رحمة الله ومغفرته ورضوانه.
العزاء للأسرة الكريمة بالخرطوم ٣ وشارع كاترينا وجميع الاتحاديين.
في أواخر التسعينات..ومنذ بدايتها ..كان هناك ظلام دامس في ليل الخرطوم السياسي..وضباب وانعدام للرؤية في نهارها الحزين.
وكذا صمت شديد وسكون ؛ إلاّ من ضوء واحد إنبعث في الخرطوم ٣ حيث الطبقة الوسطى وقتها وهي تقاوم في طريقها للانحدار والاندثار مثلها مثل الحركة الثقافية والاجتماعية والسياسية.
هناك ظهر ضوء بدأ صغيرا خافتا ثم تمدد..وانتشر ، بدأ من بيت (صلاح مكي).
وسرعان ماعم الريف والحضر.
كان الناس يتوافدون فقط للقاء بعد طول غياب وانقطاع…لمعرفة اخبار البلد و الراي الجديد..و الأمل…
كان بيت صلاح مكي بمثابة الملتقى الروحي..والمتنفس والنادي السياسي الذي يشعر الناس فيه بالسمو في مهام عظيمة بعيد عن اللهث خلف حياة عادية شعارها المأكل والمشرب والاستسلام لحياة الخنوع.
يأتي الناس الي هناك يوميا لينهلوا من غذاء الروح…حديثا عن الوطن ، بحثا عنه وايجادا لدور وطني وحراك بعيدا عن ذلك الصمت والسكون ،الخوف…والانكفاء على الحياة اليومية …حيث لاصحف..ولا احزاب.ولامنتديات
ولا كثير حديث
الا عن اخبار حزينة هنا وهناك عن الوطن السجين.
في بيت *صلاح
مكي كان هناك صالون عادي الا من زهد وبساطة ..يتوسطه سرير كبير ..يلجأ اليه الشريف نادرا جدا للنوم وبضعة كراسي خشبية عتيقة.احدها لصلاح مكي الذي لايحب ان يفارق الشريف…وقد كانت صداقتهما قوية وكان صلاح يبذل كل وسعه لراحة الشريف وضيوفه وزائريه ليل و نهار..دون كلل او ملل…
كانت
اقوال وافعال صلاح مكي وهمهماته وسكونه وحركاته تدور كلها حول الشريف وضيوفه..ولاينشغل بشئ اخر سوى متابعته للدراما من شاشة كبيرة امامه تحس انها فقط هنا لتبقيه متيقظا لحراسة صديقه وحبيبه الشريف ، تلبية احتياجات الاتحاديين..واكرامهم بالشاى والقهوة والوجبات….التي تعد لكل من تصادف وجوده وقتها..مهما كان العدد ..كبيرا أو قليلا.
هناك…جاء كل السودان..بكل سحناته..طلبا للقاء الشريف..وكثيرا ماتشاهد العناق..والدموع…بينهم و الشريف وبين بعضهم بعد طول غياب وانقطاع.
ملأت ذلك البيت الطمأنينة..والأمل…في التغيير …وانسابت هذة الطمأنينة انسيابا…كما ثورة الشريف الانسيابية…
انسابت..فكرا، نقاشا ،فلسفة…واصلاحا.
جرت كالمياه الصافية الهادئة في مجراها…وسقت..كل الريف..والحضر…وتمددت..اشعة، فكرا ونورا.
كانت زرافات الاتحاديين وجموعهم تتحدث بالقرب من مجلس صلاح مكي..ومجلس الشريف.. ثم تعبر الباب…الي تنظيمات الحزب..الي المزارعين.. ،العمال الشباب..والطلاب ، الرجال..والنساء.
يحدث اثناء ذلك.. وكان ضروريا ان يحدث ، ان يمر بصالون صلاح مكي..عدد من رجال الدولة..والحكام..الذين يجلسون..امام الشريف..تلامذة في محراب الزهد..ومدرسة العمل العام المتجرد في حضرة القائد الزاهد.
بعضهم تأخذهم الحيرة..امام رفض الشريف..لاي امتيازات…تميزه او تميز حزبه…عن الناس…كان رافضا بكل الصرامة والحسم…لاي امتيازات او عطاء من السلطة…اكل مع الناس وشرب معهم..وكان ازهدهم ملبسا..ومأكلا..بل عرف وشوهد فيه الجوع..والصبر… ..حتى لاقى الله.
ويمر على الصالون ايضا مرور دائم رجال القوى السياسية من اليمين الي اليسار والوسط …لايستثنى منهم احد وزعماء القبائل..والادارة الاهلية واهل ناشئة الليل.
فانطلقت من هناك…أسس المبادرة، الاعلان السياسي ، الميثاق السياسي الذين اعقبا اعلان دمشق..ثم البرنامج الوطني..ولجنة الفكر الوطني…
وعناصرها من رموز الوطن الذين اختارهم الشريف بعناية..ليناقشوا..امر الوطن…ويتفقوا..على الانتقال والتداول السلمي للسلطة…بايديهم لابايدي الخواجات..او الوسطاء..خارج حدود الوطن.
فى صالون صلاح مكي…
كان التبارز بالثقافة..والقراءة…كان الحديث..عن آخر كتاب قرأته..واجود مقال كتبته…واحدث كتاب في علم السياسة..اروعه في الحداثة ،اعذبه..في الشعر..واسماه في التصوف. وقراءة نقدية لمدرسة الحوار الجديدة..التي جاءت امتدادا للثورة الانسيابية…ومقارنتها ..بمدرسة الكفاح المسلح لقائدها الشريف الحسين… وبين هذا وذاك..لكل زمنه المناسب..ولكل مقام مقال.
فكان الصالون منتدى سياسي وثقافي وادبي…طبقت شهرته..الآفاق.
دبت الروح السياسية في الاحزاب والناس ومجتمع الخرطوم والبادية والحضر من اقاصي الشمال الي الجنوب..والشرق.والغرب.
اشرقت شمس الحزب..ونمت بذرة البناء الحزبى بعد ضوء الشمس وانسياب مياه الحرية..فاينعت لجان الحزب في الاقاليم والمحليات…ونهض القادة المغلوب على امرهم كفاحا وعملا…بعد ذلك الظلام.
كل من جاء الي صالون صلاح مكي التقى الشريف، الذى لايأكل ولا ينام..الا قليلا ممدا على كرسيه…ونادرا ماينعم بلحظات في ذلك السرير الموجود بنفس الصالون.
لم يكن الشريف يذهب الي غرفة اخرى للراحة ولم تكن هناك اوقات محددة للزيارة صباح او مساء فالشريف متاح للجميع في كل اوقاتهم متى ارادوه التقوه…الا من بعض محاولات صلاح مكي لايجاد وقت له للراحة…ودوما ماكانت محاولات فاشلة تجد مقاومة من الشريف.
والسر كان في ذلك ان المبادرة كانت للناس وليس للحكومة…هي المبادرة الشعبية…يشق فيها الشريف طريقا للشعب.. كي يقود بنفسه المبادرة…بعد ان يعيد ثقته في نفسه…ويمتلك مفاتيح قوته…بعد ليل القهر..الوبيل.. الطويل.
كان هناك سؤال دائم في الصالون.. يلقيه الشريف على كل زائر جديد.. وعلى كل مستزيد…من نحن ؟وماذا نريد ؟ وكيف نصل الي مانريد؟
كانت تلك الاسئلة هي كتاب المبادرة وعنوانها…وكلمة سر الليل…واسرار المبادرة…ومفاتيح ابوابها.
ومنها…انداحت فلسفة البناء الفكرى..ومفاهيم اسكندرية ١ و٢
وكي لاننسى.وفلسفة البناء الفكري وآخر…الكلم.
عاد للخرطوم نشاطها.. وضوئها ونهارها…وعادت الصحف…وخجلت بيوت الاشباح والمعتقلات…ونهضت القوى السياسية الاخرى…وفتحت المنتديات…وبدأ عهد جديد للحياة السياسية يوذن بتغيير كبير.
المدهش في هذا التغيير انسيابه…دون من ولااذى…ولا عنف……الا من كثير حزن..وقلق..وخوف مكتوم لم يفارق الشريف ، يلحظه المقربين…..حتى وهن العظم منه وضعفت بنيته الصحية.
في صالون صلاح مكي…ظهر الانشقاق الكبير…بين الاسلاميين..مذكرة العشرة وانقسام مجموعة المنشية بقيادة الشيخ الترابي مع تلامذته المخلصين له..وبين القصر..الجيش…وبعض الاسلاميين واسلاميين كثر حول السلطة.
أسرار ذلك الانشقاق التاريخي والكبير…كانت في صالون صلاح مكي بين يدى الشريف.
وكان السياسيون من مختلف القوى السياسية وكذلك الاتحاديون يسألون الشريف..سؤال أقرب للتقريرى…هل هذا الانشقاق مسرحية…ثم يجيبون على أنفسهم ..نعم مسرحية…من المستحيل أن ينشق الإسلاميون ، ولا يقطع عليهم خيالهم هذا في المسرح…سوى صوت الشريف…قائلا بحسم : ليست مسرحية…ولا يزيد على ذلك، كان يعرف تفاصيل كل شئ ويمسك بخيوط كل شئ..في قدر عال من الحكمة والمسؤلية..والسرية.
حتى ان بعض المشفقين حول الشيخ الترابي..لجأ إلى الشريف..ليتدخل ويتوسط ليحميه من بطش محتمل وهو في السجن.
كان الشريف قائدا عظيما…حتى هذا التغيير وسط الاسلاميين اراد له ان يمضى بلا دماء ولاعنف…وهو العارف لمدرسة الاسلام السياسي وخطرها على الوطن؛ لم اجد سياسي سوداني قدم تعريفا قويا للاسلام السياسي..وتحليلا له..اكثر من الشريف زين العابدين ولم اجد ادق تعريفا لليسار المتطرف وخطره اكثر منه.
هناك في صالون صلاح مكي.
(.رأينا وبدهشة كيف يدير الشريف.الحوار باقتدار مع الآخر…ومع الجيش…في روح عالية ..مليئة بالسلام النفسى والثقة والاحترام للاخر…حتى يسوقه..بارادته طائعا… إلى مربع الشريف…مربع الاعتراف بالآخر…بالتعدد..وبالتنوع ).
ووسط الحديث عن مسرحية الانشقاق ومحاولة نفيها… كان الشريف
يبث الروح في النفوس.. أن هلموا إلى كتابكم اقرأوا فيه واستعدوا ..
فقد. حدث لأول مرة ضعف في التنظيم الحاكم.
من ذلك الوقت بدأ النظام ضعيفاً…فالجيش وماحوله شبيه (بالاتحاد اشتراكي المايوى.)..سمي المؤتمر الوطني أو غيره من الاسماء…
بينما ذهب الشيخ الترابي… إلى مراجعات فكرية و وتأمل لما آلت اليه الاحوال. ولم يعد للتنظيم الحاكم تلك القوة الثيوقراطية المستمدة من المرشد الأعلى او المرجعية.
فتح هذا الانشقاق الفضاء الواسع للحراك السياسي….
وقبله كان قانون التوالي…من مصطلحات الترابي…ثم قانون ٩٨…الذي تحدث لاول مرة عن الحريات..والحياة السياسية
ثم جاء…نداء الوطن وعودة مبارك الفاضل المدي ثم الصادق المهدي..ثم الميرغني في اتفاقية القاهرة…ثم قرنق واحزاب التجمع…في ميشاكوس ونيفاشا.
لقد شهد صالون صلاح مكي
أعظم وأروع.. وأشجع واذكى…عملية تغيير سياسي…كانت من تخلقات الثورة الانسيابية…
كانت فكرا…وكانت علما…وكانت قيما.. للعدالة…والمساواة…والحرية…والديمفراطية.
لم تكن مهادنة .. ولما تكن مصالحة…ولم تكن ثنائية..ولم تكن سلطوية ولم تكن مستوردة
كانت سودانية خالصة…وكانت..شعبية..وكانت حوارا شجاعا قويا…انتصرت فيها ارادة الاتحاديين بقيادة الشريف.. وتحول فيها نظام الانقاذ تحولا جذريا نحو الديمقراطية.
عادت فيها الصحف..وعادت الاحزاب..وفتحت كوة كبيرة للحريات…وعادت بعدها كل القوى السياسية بلا استثناء…وكان الشريف..قائد الركب الاول…وقائد سلاح المهندسين كما في الجيش..اقام الكبارى من الحريات للعبور وازال الغام الطريق واشواكه ..واسس الطرق بعودة القانون..والحقوق لجيوش القوى السياسية القادمة والتي جاءت جميعها بلا استثناء في هذا الطريق.
كان كل هذا من صالون الراحل صلاح مكي
تلك الايام
وهذه …
أين الثورة الانسيابية
واين الحوار
واين القادة العظام
واين المبادرات السودانية الخالصة
واين الفكر الوطني وأين الثقافة..
واين السمو..
واين ابناء الوطن المخلصين.
( الشريف زين العابدين..والاتحاديون…سينصفكم التاريخ.)..كما قال فيديل كاسترو…
حيث ان المبادرة لم تكن انقلابا.. ولم تكن محض مشاركة.. ولم تكن سلطة…ولم تكن مهادنة.
بل كانت…كفاحا…ونضالا…وطريقا…شاقا..في التغيير…ورسالة اخلاقية..ساهمت في بناء الحزب الاتحادي والاحزاب الاخرى واعادت الروح والوعي والثقة للشعب..
وتركت بناءا تنظيميا قويا…له لجانه الان في انحاء السودان..وهو تنظيم موجود و يقظ وواع ومدرك…وسيؤتي أكله في في حينه باذن ربه.
لانه نشأ على المبادئ والاخلاق
زاده بعض من الشاى والقهوة…وسط ذلك ..الصالون الشعبي العتيق..في دار صلاح مكي..وفي شارع كاترينا..وفي دار الزعيم التجاني محمد ابراهيم ودار الزعيم ابوزيد في بري….وهنا وهناك في دور الاتحاديين..رمزا…لبساطة وشعبية المبادرة وقائدها الشريف.
سلام على الشريف
وسلام على صلاح مكي في الخالدين.
ورحمة من الله ورضوان.