استراحة الجمعة
{ الإبداع والشاعرية وفيض المشاعر عند قبيلة الشايقية في شمال السودان تمثل جزءاً من التركيبة الجينية لهذه المجموعة السكانية.. ومثلما أثبت العلماء علاقة الجينات بالسلوك البشري فإن الشعر والإبداع من خصائص رب العباد التي يختص بها من يشاء من عبيده وما ربك بظلام للعبيد.. فالبرازيليون وهبهم الخالق الوهاب موهبة فطرية في الرياضة.. ووهب الروس الصبر على الطبيعة القاسية والتكيف مع المناخ الصعب.. وعبقرية الشايقية شهد بها علماء وباحثون مثل الدكتور “نصر الدين سليمان” الذي تقصى في الأدب الشعبي عند الشايقية، بيد أن سكان منطقة المنحنى، أي منحنى النيل، يمثلون نهراً يفيض شعراً وأدباً.. ورهافة الحس والذكاء، كقول الشاعر الشعبي الشايقي:
دويست الفرقة الحدادة قصبة السكر البرزم شلال
يا الجنيات شوف عيني ما قايل قواله
وكت قنب عبيد فوق النقارة
وجات كريبيح الملوك وفجو الدارة..
وتغنى شعراء الشايقية للأمهات، وقد تفرق شمل الأسر ما بين المهاجر في دول الخليج حيث يعدّ الشايقية من المجموعات السكانية التي نالت حظاً من التعليم منذ سنوات بعيدة.. واستفادت من الوجه الإيجابي للاستعمار.. فالشعر عند الشايقية يأخذ كثيراً من معانيه ومضامينه من الثقافات المحلية للمحافظة عليها من الاندثار والتلاشي، وقد تطورت الألفاظ والمعاني من حقبة لأخرى.. وذلك مثل قول الشاعرة في الزمان القديم:
القمر بوبا عليك تقيل يا فتيل مايقوما الأصيل
الشلوخ درب الأتومبيل والرقبية قزازة
عصير والزراق فوقها تقول حرير
عندما يصبح السواد مثل الحرير في جماله تبدع الشاعرة التي ربما لم تسعفها الظروف لتلقي تعليم يصقل مواهبها في نظم الشعر وإحسان القوافي، وقد تأثر شعر الشايقية بالصور والأخيلة والألفاظ المحلية والتشبيهات الرائعة، خاصة شعر الغزل، فما أكثر تشبيه الشعراء للحسان بالبلح العجوة والمشرق والقمري والدباس من الطيور التي تتسلل إلى نهر النيل من الصحارى لتشرب الماء العذب.
العجوة البي شيل أتهرس ما بحمل لو كان أكله مص
البعيد بلدك لي المحس الريال من اثنين نقص
وجاب الشايقية أرض السودان الواسعة وقدموا نماذج من شعراء تأثروا بالبيئة الوسطية من السودان مثل “مصطفى سند” الذي رحل عن دنيانا وجفت من بعده ينابيع الشعر.. كيف لا وهو الشايقي الذي تشرب بفيض أم درمان وحنانها ومجتمعها وهو يقول:
قالت عبرت إلي فاحتمل الأسى
قالت سهرت علي فانتظر القمر
طال الوقوف وطالت الأسباب
نارك في أطياف عيناك ساهرة وأطياف المساء
وقد تبدل شعر الشايقية مع المناخات الاجتماعية والسياسية والتطورات التي حدثت في المجتمع من تقليدي إلى حديث، حيث جذبت الوظائف الحكومية خريجي المدارس الثانوية والجامعات.. ولتلك التغييرات أثرها في أنماط الشعر مثل قول الشاعر:
واقع وراك يا بت الشريفة داير أروح لي بلد الوظيفة
داير أجيب تربيزتي أخت صابون أب ليفة
داير أروح لي بكان اللحمة والنيفة
و(النيفة) هي لحمة رأس الخروف.. وقد تبدلت اهتمامات شعراء الشايقية من العشق والهيام إلى شعر المقاومة الوطنية ولهيب الثورات.. والشعر الحديث الموغل في الرمزية والوطنيات.
أنت جاية المغربية.. وشك المكبوت مكندك
صونصنايتك زمزمية..
ويعدّ “مصطفى سيد أحمد” نموذجاً لتلاقح ثقافة ديار الشايقية بواسطة الجزيرة، لكنه احتفظ بنكهة وطلاقة لسان الشايقية الذين يمثلون نهر الإبداع السوداني الذي لا ينضب ولا يجف مداده.