حتى رنَّ جرس الهاتف..!
– 1 –
في ذاك الصباح بدا كل شيء على ما يرام.. تمكنتُ من الوصول إلى المكتب في الوقت المناسب.. يصعب التأخُّر في هذه (المناخ) الذي نستقبل فيه مديراً جديداً يظن أن أهم ما في العالم التوقيع على (دفتر الحضور) خلال الزمن المحدد.. أو قبله.. لا يهم..!
أكاد أقسم أنني أرى ملامح الخجل واضحة في وجوه جميع الموظفين الذي استجابوا لـ (نداء الحضور).. فما أصعب أن تذعن لـ (الالتزام).. في السودان!! لكنهم معذورون.. فهذا (التسيُّب) احتجاج فعلي على عدم جدوى الوظيفة.. واحتجاج (أشد) على عدم المقدرة والعجز الكامل عن ركلها بعيداً كـ (جيفة منتنة)..!
المهم.. جلست.. وأنا أنظر حولي لهذا الجو الغريب.. لم أشعر بالخوف.. ولا بالأمان.. فقط أدُور في حلقتي..
كان كل شيء يسير كالمعتاد.. حتى رنَّ جرس الهاتف..!
– 2 –
غريبٌ أمر زوجتي الحبيبة.. ألاحظ أن (نبرة) صوتها تعلُو تدريجياً كلما اقتربت مناسبة مهمة، كالعيد مثلاً.. تزداد عصبيتها.. وتعتريها مشاعر متناقضة..! لذا لم أستغرب (حزنها) عندما سمعت بـ (منحة الرئيس).. رغم أنني (حاولت) أن أبدو سعيداً..!
دخل “طارق” ابني الأصغر الذي تستخدمه أمُّه (ورقة ضغط) عندما تيأس منِّي.. نظرت إلى عينيه وفهمت.. بدأ يتحدث بلثغته الصوتية المحببة إليَّ.. هممت بالإجابة.. وكان كل شيء يسير كالمعتاد.. حتى رنَّ جرس الهاتف..!
– 3 –
أعترف بأن لي صديق وحيد.. لست انطوائياًَّ لكنني (مشغول).. أو هكذا أبدو على الدوام.. عاد صديقي بعد غربة (عجيبة).. لم يخبر أحداً أين سيسافر.. ولا كم سيبقى.. ولا متى سيعود.. لكنه هبط علينا، بعد غياب خمس سنوات، كمطر صيفي..!
سألني عن وظيفتي.. وعن أبنائي.. وعن جاري “حاتم” الذي لقّنه (حروف الهجاء) منذ زمن بعيد، قبل أن ترمي به (وزارة التعليم) كـ (حصان عجوز) بعد أن بلغ الستين..!! وقبل أن أجيب استأذنني للانصراف بعد أن رنَّ هاتفه الحديث الذي لم أرَ مثل فخامته حتى عند (مديرنا الجديد)..!
– 4 –
لجارنا العجوز “حاتم” هواية غريبة.. كان ينظف و(يرش) المساحة أمام منزله يومياً.. حتى في (العطلات الرسمية)..! ثم لا يمنع صغار (الحلة) من إفساد ما يصنعه..!
لم أجادله يوماً في ما يفعل عندما نلتقي أمام (سيد اللبن) الذي يطلق نداءه كل مساء.. ليصير (حماره) مقصداً لرجال ونساء الحي..!
غير أنني في ذلك اليوم افتقدته.. ليس من عادته (الغياب) عن هذه المحفل المهم.. سألت زوجته (الصابرة) فقالت إنه موجود بـ (التعريشة) التي يتخذها (ديواناً) في منزله (الطيِّب).. ذهبت ودفعت (باب الزنك) ودلفت إليه.. لم آبه للاستئذان ما دامت زوجته في الخارج عند (الحمار)..! نظر إليَّ نظرة بلا معنى.. سألته (إن شاء الله خير).. قال لي: لن أنظف أمام المنزل بعد اليوم.. هل تعلم لماذا؟
ثم أجاب قبل أن أسأل: كنت أنوي الخروج.. وكل شيء يسير كالمعتاد.. حتى رنَّ جرس الهاتف..!
{ آخر محطّة
هي قصّة قصيرة كتبتها.. فيها متسع للفهم.. ومضيق.. في نفس الوقت!!