يفترشون الأرض ويلتحفون السماء: المشردون.. الموت والحياة على الطرقات!
بينما كنت في طريقي لإحدى المكتبات في سوق أم درمان لشراء الصحيفة استوقفني أحد اليافعين، واضعاً على فمه قطعة ضخمة من القماش المعطون والمشبع بـ(السلسيون)، وهو يقول بكلمات بطيئة ومتثاقلة: (ما عندك حبة يا حبة)!
وعرفت منه أن اسمه (أبو اللول) أو كما قال – جاء من إحدى الولايات البعيدة بحثاً عن والديه، ولما لم يجدهما انضم لأبناء الشارع العام والذي لا يضن بأبويته على كائن من كان.
وقبل أن استطرد في حديثي معه أو أجد وسيلة لمساعدته إذا بمجموعة كبيرة من الفتيان والفتيات يهرولون نحوه، ليطلق ساقيه للريح والمجموعة في أثره، ولعلها مطاردات يكون فيها الصياد اليوم طريداً غداً في قانون التشرد و(الراندوك).
التشرد واحدة من الظواهر التي ظلت تؤرق الخبراء والمهتمين في الدولة منذ مدة طويلة، كما أن ازدياد عدد المشردين بصورة لافتة أدى إلى حدوث اشكالات عديدة مما أثر على النسيج الاجتماعي للمجتمع السوداني والذي عرف بعادات وتقاليد وموروث شعبي وحضاري وديني هو أبعد ما يكون عن التشرد والمشردين.
وأسباب التشرد هي أسباب عديدة ومتشابكة ومتداخلة مع بعضها البعض، بحيث يكون من الصعب جداً تحديد سبب وحيد وبعينه ليكون هو سبب هذه الظاهرة، وإنما هي أسباب تتفاعل مع بعضها لتكون المحصلة النهائية هي الظاهرة بوضعها وحجمها الراهن.
وفي هذا الاطار نجد أن النزاعات المسلحة والحروب القبلية وعدم الاستقرار الأمني والسياسي وحالة الاحتقان التي يعيشها الكثير من الأماكن والمناطق وعدم القدرة على توفير الشعور بالأمن والسكون، كل هذا يمثل عاملاً مهماً، إضافة إلى الضغط الاقتصادي والمعيشي والذي يجبر أفراد الأسرة على البحث عن لقمة العيش في الشوارع بعد أن عجزوا عن توفيرها داخل المنازل، والأدهى من ذلك أن بعض الأسر وتحت وطأة الحياة اليومية قد تدفع بأبنائها دفعاً إلى عالم التشرد.
ولا يجب اغفال التفكك الأسري والعنف المنزلي والتعرض للضرب والأذى الجسدي والجنسي واللفظي وكذلك الفاقد التربوي وعدم نيل نصيب وافر من التعليم والرعاية وصعوبة التأهيل الذاتي وتطوير المهارات والملكات، وأيضاً الحراك الديموغرافي الكثيف في العقد الأخير والذي
حرك الريف بكل مقوماته نحو المدينة بحثاً عن فرص أفضل، ولكن إلتقى اسوأ ما في الريف باسوأ ما في المدينة ليكون الناتج واقعاً مخيفاً ومروعاً في شكل التشرد والمشردين.
كما تلعب العوامل الوراثية وأنماط الشخصية المختلفة ومدى قابلية الشخص للتعايش مع الواقع ومدى فعالية أدوات التكيف النفسي والقدرة على التعايش والتأقلم مع الأوضاع المختلفة، تلعب دوراً كبيراً في حدوث هذه الظاهرة.
كما توجد أسباب أخرى مثل روح التمرد والجنوح والجموح والعديد العديد من الأسباب الأخرى والتي لا يسع المجال هنا لذكرها مجتمعة.
وإذا تناولنا الآثار النفسية للتشرد نجدها لا تعد ولا تحصى، منها بروز الشخصية المضادة للمجتمع والإدمان والتعاطي والانحرافات السلوكية وولوج عالم الجريمة والسرقة والقتل والممارسات الجنسية غير السوية والشذوذ الجنسي والتبول الليلي، كما يكون المتشرد أكثر عرضة عن غيره للإصابة بالأمراض النفسية والعصبية مثل الاكتئاب النفسي.
والمعالجة تكون بتعاون قطاعات المجتمع كافة ويشمل ذلك الشرطة والأمن والصحة والرعاية الاجتماعية والمنظمات الطوعية ومنظمات المجتمع المدني المختلفة ورجال الدين ورجال الأعمال ورجال المجتمع وغيرهم.
ويكون العلاج الطبي لأية حالات عضوية والعلاج النفسي للإدمان والإنحرافات السلوكية المختلفة، ويلي ذلك إعادة التأهيل والدمج في المجتمع ولم الشمل وتوفير فرص الحياة الكريمة والتعليم والصحة وتوفير الأمن، ولا يتم ذلك إلا بحل النزاعات وتوفير البيئة الصالحة ورتق النسيج الاجتماعي والارشاد النفسي ورفع الوعي
الجمعي، مع ضرورة جذب الانتباه للمشكلة وعدم دفن الرؤوس في الرمال.
وهنالك العديد من الأمثلة لبعض المتشردين الذين ولجوا عالم التشرد مرغمين، ولكن بعد المعالجة وإعادة التأهيل الآن بخير منهم من التحق بالجامعة ليصبح طبيباً أو مهندساً أو معلماً، وهذا يؤكد أن الأمل كبير جداً في هؤلاء الضحايا، وأن البذرة الصالحة في داخلهم تحتاج لمن يرعاها لتكون ثمراً ناضجاً ويكون المتشرد عضواً فاعلاً في المجتمع ونافعاً لنفسه ووطنه بدلاً من الموت
على الطرقات بتناول السموم جهلاً وغفلة كان يمكن تجنبها لو كان أكثر علماً وتأهيلاً.