بحصافة
إمام محمد إمام
i.imam@outlook.com
غيب الموت، أمس (الجمعة 16 أبريل (نيسان) 2021)، الذي هو علينا جميعاً حقٌ معلومٌ، وهو مسطورٌ في لوحٍ محفوظٍ، ومحددٍ لكل أجلٍ كتابٍ مبينٍ، وكل نفسٍ لا محالةٍ ذائقة الموت، تصديقاً لقول الله تعالى: “كُلُّ نَفْسٍ ذَائِقَةُ الْمَوْتِ ۗ وَإِنَّمَا تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ ۖ فَمَن زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَأُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فَازَ ۗ وَمَا الْحَيَاةُ الدُّنْيَا إِلَّا مَتَاعُ الْغُرُورِ”. انسل من دنيانا الفانية، منتقلاً إلى الدار الباقية، في يوم من أعظم الأيام وأفضلها، ألا وهو يوم الجمعة، الأخ الصديق عبد الرحيم محمود حمدي وزير المالية الأسبق، والخبير الأقتصادي الأشهر.
وُلد الراحل عبد الرحيم محمود حمدي في عام 1939، وهي السنة التي اندلعت فيها الحرب العالمية الثانية. وبدأ سنيّ دراسته الأولى في مدينة شندي في عام 1946، وانتقل بعدها لمواصلة دراسته بالمرحلة الأولية بين المدائن، اضطراراً لا رغبةً، إذ أن طبيعة عمل والده بالطب والطبابة جعلته كثير الانتقال، ودائم التسفار، يجوب مناطق السودان المختلفة، طبيباً معالجاً، فيضطر أهلوه رافعين عصا الترحال، إلى أن استقر المقام بالأسرة، ووضع عصا الترحال في أم درمان! فولج عبد الرحيم حمدي مدارس أم درمان، فبدأها بأم درمان الوسطى (المتوسطة)، ثم مدرسة وادي سيدنا الثانوية، التي كانت ثالث ثلاث في السودان (وادي سيدنا وحنتوب وخور طقت)، وفيها بدأت رحلته مع الحركة الإسلامية، ثم جامعة الخرطوم، التي تخرج فيها من كلية الاقتصاد في عام 1962.
كان عبد الرحيم حمدي كادراً نشطاً في الاتجاه الإسلامي بجامعة الخرطوم، ومنذ بواكير أيامه في الجامعة، أظهر مقدرةً عاليةً في القيادة الطلابية، وبرز كأحد الكوادر الإسلامية في النشاط الصحافي، حيث تولى تحرير صحيفة الاتجاه الإسلامي الحائطية بالجامعة (آخر لحظة). وعقب تخرجه من الجامعة التحق بوزارة المالية، ولأنه أظهر من خلال تلكم الصحيفة مقدراتٍ ومهاراتٍ صحافيةٍ، أهلته إلى إرتياد عالم الصحافة الحزبية، حيثُ عمل في صحيفة “الميثاق” التي كانت تصدرها جبهة الميثاق الإسلامي. وكان من أبرز الصحافيين فيها، ثم تفرغ ليشغل منصب مدير تحرير الصحيفة. وبعد إنقلاب الرئيس الراحل جعفر محمد نميري في 25 مايو (إيار) 1969، أُعتقل ضمن مجموعة قيادة جبهة الميثاق الإسلامي، وبعد إطلاق سراحه غادر للعمل خارج السودان. ولكنه عاد بعد المصالحة فعمل في قيادة الفريق الذي أسس بنك فيصل الإسلامي، أول بنك إسلامي في السودان، الذي تم افتتاحه بعد بنك فيصل الإسلامي في مصر. وشغل الراحل عبد الرحيم حمدي منصب نائب المديرالعام. ثم طلب منه رجل الأعمال السعودي الشيخ صالح كامل أن يؤسس بنك البركة في لندن. وبالفعل أسس بنك البركة في العاصمة البريطانية. وبعد حكومة الإنقاذ الأولى في يوليو (تموز) 1989، رمت الإنقاذ ببنيها في الحكومة الثانية، فكان عبد الرحيم حمدي الوزير الثاني بعد الراحل الدكتور سيد زكي، فشغل منصب وزير المالية حتى أكتوبر (تشرين الأول) عام 1993، فجاء بسياسة التحرير، ولكنه خرج من الوزارة ليؤسس شركة مالية خاصة، وهي شركة استشارية متخصصة في مجال الإستشارات المالية، وعمل الدراسات المالية للبنوك، ثم قام بتأسيس شركة الرواد للخدمات المالية في عام 1994، وتقلد منصب رئيس مجلس إدارة سوق الخرطوم للأوراق المالية، وشغل منصب رئيس مجلس إدارة بنك الاستثمار المالي، وذلك حتى عام 2002 الذي عُين فيه وزيراً للمالية للمرة الثانية.
وفي رأيي الخاص، أن الراحل عبد الرحيم حمدي كان من أُولي العزم في اتخاذ القرارات الاقتصادية، والسياسات المالية الجريئة التي أعلنها في الساعة الثانية من ظهر يوم الاثنين الثاني من فبراير (شباط) عام 1992. وكان الأخ الصديق الراحل عبدالوهاب أحمد حمزة وزير الدولة بوزارة المالية – يرحمه الله – يُفاخر بهذا التوقيت المسجوع في حديثه عن سياسات التحرير المالية! ولم يعبأ الراحل عبد الرحيم حمدي بتداعيات السياسات المالية التحريرية، والانتقادات التي انتاشته بسبب هذه السياسات المالية الجديدة! فاستهلها بتغيير العُملة وتبني سياسة تحرير الأسواق، وأثرها في تحريك جمود الاقتصاد السوداني، رغم ضمور الموارد! ولمَّا كان عبد الرحيم حمدي يعرف بخلفيته الصحافية، كيفية تشكيل رأيٍ عامٍ مساندٍ لهذه السياسات، بدأ يُروج لسياسة الاعتماد على الذات، وتنمية الموارد الذاتية، وخلق مواردٍ بديلةٍ، وأتخذ سياسة التخصيص أو الخصخصة مغيراً بها وِجهة الاقتصاد السوداني من التوجه الاشتراكي، وهيمنة مؤسسات الدولة الاقتصادية إلى سياسة حرية الأسواق، وحفز القطاع الخاص وشجعه، رغم أنه لم يعمد إلى إخراج الحكومة من النشاط التجاري والخدمي ضربة لازب! و سياسة حمدي الاقتصادية منذ عام 1992 ظلت تحكم الاقتصاد السوداني على تفاوتٍ في النجاح، حسب حزم وقوة وحسن تدبير الطاقم الاقتصادي. وقد حققت نجاحاً على عهد وزارته الأولى والثانية. وحققت نجاحاً أيضاً في أواخر التسعينات، قاده الأخ الراحل الدكتور عبد الوهاب عثمان وزير المالية آنذاك. وقد خرج عبد الرحيم حمدي في المرة الأولى والثانية، لتمسكه بتطبيق السياسات بعيداً عن المضاغضات العليا! فهو صاحب آراء ومواقف صارمة وحازمة. وكان حزمه في تأكيد ولاية المال العام صامداً قوياً، وربما هو المفسر لعدم إطالة عهديه في الوزارة في المرة الأولى والثانية. ويعرف عنه أهل الصحافة والإعلام وهو واحد منهم الإجابات الصريحة المباشرة التي قد تُحدث عند السائل صدمة لأول وهلة.
عرفتُ الأخ الصديق الراحل عبد الرحيم حمدي منذ عهدي الطالبي بجامعة الخرطوم، إذ كنتُ في سنيّ الأولى بجامعة الخرطوم إلى حين سفري إلى بريطانيا أُقدم برنامج “شذرات من الثقافة” التلفزيوني مع أستاذي الجهبذ الراحل البروفسور عبد الله الطيب – تنزلت عليه شآبيب رحمات الله الواسعات – وكان وقتها الفقيد نائب مدير بنك فيصل الإسلامي، وكان البنك أول بنك إسلامي في السودان، وأقترحت عليه أن يدعم البرنامج مالياً، كرعايةٍ له، على أن أذكر رعاية البنك لذاكم البرنامج في المفتتح والمختتم، وبخلفيته الصحافية والإعلامية، وافق على المقترح، على أن يتكفل البنك برحلات طيران أستاذي البروفسور عبد الله الطيب – ذهاباً وإياباً – من فاس بالمغرب إلى الخرطوم، وبالفعل سجلنا للتلفزيون السوداني حلقاتٍ عدةٍ من ذاكم البرنامج الذي استمر قرابة الخمسة أعوامٍ. وتوثقت علائقي به في لندن كثيراً، وكنا نلتقي في داره وداري بلندن لأعوامٍ طوالٍ. وعند عودته إلى السودان أقمنا له حفل وداعٍ، وتواصلنا في الوداد واللقاءات بالخرطوم. وكنتُ ورهطي “في عُصبة الكرام الثقافية الإعلامية”، عندما يضطرب الاقتصاد السوداني دعوناه، ليوضح لنا ما استشكل علينا من أمر الاقتصاد السوداني، وكان يفعل ذلكم بكل أريحيةٍ، وطيب نفسٍ.
أخلص إلى أن الأخ الراحل عبد الرحيم حمدي، يُعد من رموز العمل الإسلامي، ووضع بصمته ليس في سجل الحركة الإسلامية فحسب، بل في سجل العمل الوطني في السودان، وعلى نطاق العالم العربي. وأشهد له بالشجاعة والجُرأة في اتخاذ القرارات الاقتصادية والمالية الصعبة، ومواجهة التحديات بعزيمةٍ لا تفتر، وقوةٍ لا تلين! وكان لا يتردد في الصدع برأيه، وبكلمة الحق في كل مقامٍ.
وكان يتمثل في جُهده واجتهاده، قول الشاعر العربي أبي الطيب أحمد بن الحُسين المعروف بالمتنبئ:
كُلَّ يَومٍ لَكَ اِحتِمالٌ جَديدُ
وَمَسيرٌ لِلمَجدِ فيهِ مُقامُ
وَإِذا كانَتِ النُفوسُ كِباراً
تَعِبَت في مُرادِها الأَجسامُ
ألا رحم الله تعالى الأخ عبدالرحيم محمود حمدي الذي رحل عن دنيانا الفانية في يومٍ جعله الله أفضل أيام الأسبوع وأعظمها (الجمعة)، ويوم له مكانةٌ عظيمةٌ في الإسلام. وأنزل على فقيدنا شآبيب رحماته الواسعات، وتقبله الله قبولاً طيباً حسناً، وألهمنا وآله وأهليه جميعاً وذويه وأصدقاءه وزملاءه وطلابه، وقراءه وعارفي فضله، الصبر الجميل. وأسأل الله تعالى أن يتغمده بواسع رحمته، ويتقبله “مع الذين أنعم الله عليهم من النبيين والصديقين والشهداء والصالحين وحسن أولئك رفيقا”.
ولنستذكر جميعاً في هذا الصدد، قول الله تعالى: “وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.