الديوان

"الكاشف".. عبقرية الغناء التي أطربت الآذان على مر الأزمان

عندما كان يذهب إلى (المقرن في الصباح) ويقضي (الجمعة في شمبات) كانت بينهم أوجه جميلة وجلسة ما منظور مثيلها وترنو عيناك الكحيلة، أسرته (فتنة) وأنشد يا ملهمي القوافي ولكل معنى وافي، ولم يكتف بذلك فظل يكرر (الزيارة)، (باسم الحب) مردداً (الشاغلين فؤادي) و(صابحني دائماً مبتسم) و(أنا ما بقطف زهورك)، ثم تغزل في (فصود في خدود تضوي وخدود بدون أمارة). وعندما حلق عبر (رحلة بين طيات السحاب) همست له (ألمس قلبي داب) رد عليها (أنت عارف أنا بحبك ولا ماك عارف)، وتمادى في وصفها (إنت بدر السماء)، على أمل تجديد اللقيا مساءً فتكون وبعد جلسة عكر صفوها عتاب لذيذ غادرته فناداها بـ(يا هاجري مهلاً) قبيل أن يلوح لها (وداعاً روضتي).. الكلمات التي بين الأقواس أسماء لمفردات تغنى بها عبقرية الغناء السوداني الفنان “إبراهيم الكاشف”، إلى جانب عدد مقدر من الأغاني الرائعة التي شكلت وجدان أهل السودان، وأبناء جيله في تلك الفترة وهو بعد في العاشرة من عمره.
قيل إن “الكاشف” كان (شيال) (كورس) مع مطرب اسمه “مصطفى بابا” وهو سائق لوري، وأحياناً يشيل مع مطرب آخر اسمه (الشبلي) كان سائقاً في الري، غير أن جدته لم يرق لها الأمر بحسبان أن الغناء رجس من عمل الشيطان، فكانت لا تفتأ تطارد حفيدها دون أن يعييها البحث، وعندما تجده تنهال عليه ضرباً أمام الملأ، بيد أنه كان يقابل هذه الشدة بالإصرار والعزيمة والمضي قدماً في درب الغناء، فتمعن هي أيضاً في ضربه، وانتهت المشادة بينهما بانتصار الفن على الضرب، إلى أن ذاع صيته وأصبح صرحاً إبداعياً يشار له بالبنان.

من خلال المساحة التالية نلقي شي من الضوء على بعض من صفحات كتابه وسيرته العطرة.
{ النسب الهجين 
ولد “إبراهيم الكاشف” بمدينة ود مدنى عام 1915م بحي ود أزرق، وهو “إبراهيم محمد أحمد أبوجبل” الشهير بـ”إبراهيم الكاشف”.. ترجع جذوره إلى أسرة مصرية بمنطقة (كوم أمبو) التي تقع في صعيد مصر، وهي أسرة كبيرة ممتدة إلى داخل السودان، جاء جده “أحمد أبو جبل” مع بعثة الري المصري للعمل بالسودان، وقد اشتهرت هذه الأسرة في مجال صناعة وهندسة الميكانيكا والحدادة والبرادة وتصنيع المواد الخام من الحديد.
والدته “حسنة علي محمد علي كاشف”، ترجع جذور أسرتها إلى الحكم التركي في عهد الدولة العثمانية في السودان،   حيث جاء جدهم “محمد علي كاشف” إلى السودان كقائد عسكري مع الحملة التركية، واستقرت أسرته بمدينة ود مدنى حي (القسم الأول).
و(الكاشف) هي رتبة في الجيش التركي. وزوجة “علي كاشف” (مغربية) ترجع أصولها إلى بلاد المغرب اسمها “ست أبوها”. توفي والده وهو صغير فتولى تربيته جده لأمه “علي الكاشف”. قضى ثلاثة أعوام بالمدرسة الأولية ثم تركها، وفي عام 1940م انتقل للخرطوم.
وعلى الرغم من أن “إبراهيم الكاشف” كان أمياً، إلا أنه كان حاد الذكاء لماحاً وله صوت نادر لا يتكر ر، بحسب عدد من خبراء علم الأصوات.
{ اكتشافه واكتشافاته
الكاشف يعد أحد اكتشافات مطرب السودان الخالد “الحاج محمد أحمد سرور” الذي خرج من صلب الجزيرة (ود المجدوب) وذلك في العام 1931م، وهو أول مطرب يخرج على تقليد نهج الفرقة الموسيقية المصاحبة للمطرب، التي لم تكن تتجاوز الرق والطنبور والصاجات والصفقة، وإذا به يفاجئ جمهوره عام 1934م، بأدائه لأغنية (أنا بقطف زهورك بعاين) في صحبة إحدى الفرق الموسيقية المصرية الحديثة التي كانت في زيارة إلى ود مدني آنذاك ونجح نجاحاً مذهلاً جعله يعيد التجربة مرة ثانية عام 1940م حين قدم أغنية (الشاغلين فؤادي) في حفل نادي الخريجين، وهو أول من استعان (بالشيالين) (الكورس) من الجنس اللطيف.
و”الكاشف” كان حريصاً على تلحين معظم أغانيه بنفسه ومع ذلك فقد التقى بمدينة ود مدني أحد شعراء العامية البارعين، وهو الشاعر “علي المساح” وهو ينتمي إلى نفس البيئة التي ينتمي إليها إبراهيم الكاشف، وكانت البداية أغنية (زمانك والهوى)، ثم انفرد “الكاشف” بلحنين صارا فيما بعد من أشهر ألحانه، بل من أشهر الألحان السودانية وهما: (الشأغلين فؤادي) و(أنت بدر السماء) وهما أيضاً من كلمات “علي المساح”.
وفضلاً عن تلك الاكتشافات والإضافات التي أدخلها على الأغنية السودانية، فهو أول من استعان بعازف آلة القانون في فرقته الموسيقية الأستاذ (مصطفى كامل) أستاذ الموسيقى في البعثة المصرية التعليمية بالسودان، وعندما شبّ “الكاشف” وأصبح يرتاد حفلات الغناء والطرب كان الثلاثي “سرور” و”كرومة” و”برهان” ملء السمع والبصر، وفي ذلك الوقت ظهر في السودان نوع جديد من الطرب والغناء هو ما يعرف بـ(حقيبة الفن). 
الأغنية التي تحولت إلى مرثية
سعى الفنان الكاشف إلى تكوين أوركسترا أو آلات متفرقة مثل الأكورديون والكمنجة، فطوّر في الموسيقى السودانية  وخرج بها عن إطار أغاني الحقيبة التي كانت سائدة آنذاك (الطنبور والرق) إلى العصر الحديث (الأوركسترا)، فبدأ معه أساس التجديد في الأغنية السودانية، وأصبح فنه يغطي رقعة واسعة من أقاليم السودان بفضل قوة صوته وحسن أدائه الأمر الذي جعله المطرب الأول. وملأت شهرته الآفاق.
غنى “الكاشف” للعديد من الشعراء، منهم “خالد أبو الروس”، “عبيد عبد الرحمن”، “السر قدور”، “حميد أبو عشر”، “خليل فرح”، “المساح” و”صالح أبو السيد” وآخرون .
تجادل “الكاشف” و”الكحلاوي” وقد كانا صديقين حول أغنية (وداعاً روضتي الغناء) و”الكاشف” قال لـ”الكحلاوي”: (لو أنا رحلت عن هذه الدنيا قبلك تغني هذه الأغنية أثناء تشييعي.. ولو إنت رحلت قبلي سأغنيها أثناء تشييعك يا كحلاوي) ويذكر الذين حضروا تشييع الراحل “الكاشف” أنه في لحظة أن وضعوا جثمانه على حافة القبر بدأ “الكحلاوي” يغني (وداعاً روضتي الغناء) بطريقة باكية وجاءت كأنها  مرثية لتلك العبقرية.
وثق لـ”الكاشف” (الموسوعة) العديد من الكتاب وأهل الفن منهم صديقه “السر قدور”، و”مبارك محمد المبارك” وغيرهما كثير، كما تغنى له عدد من المطربين على رأسهم الفنان “عصام محمد نور”، والفنان “عماد الكاشف” والفنان “أحمد عجوز”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية