أخبار

"عبد الكريم ميرغني".. (شمائل لا تحُصى وأوصاف لا تُعد)!!

أثار مقالي عن حميمية الموت و”درمة” غباراً من الإشفاق والثناء.. رغم خشونة كف “درمة” ومخافة أن تنتزع يده الباسطة الثوب الذي فوق جلباب الميت الذي يمتاز بخلوه من (الجيوب) إيذاناً بالاستقرار في اللحد.. وقالوا ما لهذا القلم يحفر قبراً في صحيفة (المجهر) التي تبدأ عامها الثاني و”سبدرات” يفتأ يذكر الموت.
وأصدقكم القول إني كنت قد أعددت مقالاً آخر يحكي عن حميمية علاقة أخرى للموت، لرجل آخر له يد بها عدة كفوف، ولا أقول (أصابع)، وهو يفوق عمل “درمة” بعدة أفعال.. سأفصح عنه بعد أن أباعد بهذا المقال، وربما آخر لأفصل بين شارعين من شوارع الحياة.. شارع شرق الشمس وآخر شمال الموت!!
أكتب عن رجل أخفى فعل (اليسار) انتماء بتبتل وإخبات جعله ورداً سرياً لا تدركه أبصار وعيون السياسة، ولا تسمع نجوى ليله وقد لامس السحر.. أذن شبعت بتصنيف الناس إلى (يسار) يهلك و(يمين) هو حزب الله!!
أكتب عن “عبد الكريم ميرغني” الذي أقام له أحد أبناء السودان النجباء مركزاً ثقافياً، بدأ خافت الضوء ثم ما لبث أن أصبح وزارة للثقافة يشارك الوزارة الرسمية بذر (تقاوي) الفكر في أرض أم درمان شديدة الإلفة بالفن والثقافة والإبداع.
هو- أي “محمود عثمان صالح”- الذي يكتفي بالصلاة في العمل العام بـ(صلاة كل ركعاتها بقراءة سرية) مخافة أن يسمع الناس همسه في أذن الفكر والاستنارة والأدب.. ولهذا ترك البوح البواح ليقوله ويجهر به مركز “عبد الكريم ميرغني”.. فهل جهر وأبان؟ أظنه فعل وباقتدار.
أعود للحديث عن الرجل.. وحين أعود واختار أن أكتب عن “عبد الكريم ميرغني” أعلم أني ألقي بحجر في بركة (الونسة) الساكنة بحجر يوقظ في الناس حديثاً قديماً بشأني، فهم تعمدوا أن لا ينسوا أن “عبد الباسط سبدرات” قد انتمى لقبيلة اليسار باكراً في حياته، بل كان ناشطاً بدرجة (رختر) السابعة.. وهم إذ يتعمدون ذلك- ولا أبالي بجمعهم- يريدون أن يوصدوا كل باب، ليظل الإنسان جامداً في الانتماء وإن تبين له ختل ما اختار، أو أنه اكتشف أمراً جعله بداية يتملّل ثم يرسو مؤخراً على قرار الابتعاد.. أولئك النفر يريدون بنفس المعيار أن يكابر الإنسان صموداً في حضرة مبدأ بدا له أنه لا يناسبه أو أن يغلق عليه باب سجن مؤبد العقوبة في ذلك الانتماء.
تراني قد استطردت في شأن يخصني ولا يخص من أريد أن أكتب عنه.. لكن سبب استطرادي هو أن اختياري للسيد “عبد الكريم ميرغني” سيجعل بعض أولئك يقولون: (ألم نقل لكم إن “سبدرات” في ضلاله القديم؟).. ويل لهم مما يقولون!
أنا قلت في حضرة الإعلام إني أكره فعل (بصق) حتى في (الحمام) ناهيك أن يكون انتقاداً لاعتقاد.. وقد أغاظ قولي بعضهم، فطفق يشتم وما التفت وما بصقت!!
أكتب عن “عبد الكريم ميرغني” لأني ظللت ردحاً من الزمن أحاول الاقتراب من سيرته مما كتب عنه من عرفوه، وسعدت يوم تم تخليده بمركز عملاق أصبح كالطابية في أم درمان.
رأيت الرجل من بعد وكذلك أحببته من بعد.. وحين اخترت عنوان هذا المقال أخذت جزءاً من العنوان من مقال كتبه السيد “السني بانقا” أحد أصدقاء “عبد الكريم ميرغني”.. يقول مخاطباً “عبد الكريم” في تأبينه: (.. لقد كنت كوكباً متفرداً في سماء عصرك نشأت منذ صغرك تنشد العلياء، وتسابق الزمن في حلبة الفكر، تسمو عن أقرانك بفكر ثاقب، وذكاء وقاد وطموح وثاب.. تحمل هموم وطنك بين جنبيك وتسهر الليالي يؤرقك الفكر في عاصيات السياسة ومشاكل الاقتصاد، وكنت رقيقاً لطيفاً لا تجرح شعور أحد، وكما يقول الفرنجة: (Too gentle to hurt a Fly).
آه يسرقني في هذا المقال من التركيز بعض شجن وندم.. أما الشجن فمبعثه أن مجتمع (المشافهة) في السودان ينسينا أن نوثق لعماليق، وتمنعنا مجالس الأنس عن التدوين، ويسرق الزمن من ذاكرتنا طعام الذكريات ثم ينساهم حتى أقرب الأقربين.. أما الندم فهو أني وبفارق العمر لم أحظ من الرجل ولو بساعة مع معرفة كفاحاً..
غير أن غيري ممن عرفوه.. زودوني بحديث عريض.. ولهذا أبسط الآن سيرته وباقتضاب:
هو من مواليد 1923م، وبعد أن أكمل دراسته في كلية الخرطوم الجامعية عام 1939م، التحق بمدرسة الإدارة التي كانت تتبع لكلية الخرطوم الجامعية، ومن ثم التحق بالسلك الإداري في وظيفة نائب مأمور لفترة قصيرة ثم اشتغل بالتدريس في المدرسة الأهلية بأم درمان، حيث كان يدرس مادة التاريخ.. وفي 6 يوليو 1956م التحق بوزارة الخارجية كمستشار، وتم نقله إلى سفارة السودان في لندن.. ثم تم نقله إلى رئاسة الوزارة ليشغل منصب رئيس قسم الشؤون السياسية.. وفي 1964م اُختير وزيراً للتجارة في حكومة أكتوبر.
كان السيد “عبد الكريم ميرغني” عضواً لأول وفد سوداني للأمم المتحدة (الدورة الحادية عشرة).. شغل السيد “عبد الكريم ميرغني” منصب المستشار بمكتب المندوب العام الدائم بنيويورك.. (سبق أن تناولت في قبيلة السيد الوزير جانباً من سيرته).
 يقول عنه صديقه “السني بانقا”: (هكذا كان عبد الكريم.. شمائل لا تحصى وأوصاف لا تعد.. عالم اقتصاد وعالم سياسة وأديب يحفظ الشعر العربي والإنجليزي وهو من محبي شكسبير وكذلك المتنبي.. وشوقي وأوسكار وايلد.. وكان وطنياً من طراز فريد، وكان من أبرز شباب حزب الاتحاديين.. تلك الصفوة من المثقفين الذين حملوا مشاعل الحرية).
(لعبد الكريم ميرغني صداقات وصلات روحية مع القادة السياسيين، فقد كان صديقاً حميماً للمرحوم ميرغني حمزة، وقد أعجب به ميرغني حمزة إعجاباً شديداً وقدمه للسيد علي الميرغني لكي يقوم بتدريس أبنائه. فقد كان عبد الكريم أول أستاذ يقوم بتدريس أبناء السيد علي الميرغني عند فتح مدرسة الأشراف، ولهذا السبب فقد توطدت العلاقة بينه وبين السيد محمد عثمان الميرغني.. يستأنس برأيه في بعض المسائل السياسية كلما التقيا).
(عمل عبد الكريم ميرغني في مطلع الستينيات بسفارة السودان بالهند، وكانت تلك الفترة فترة موار وطني شديد.. وهي الفترة التي شهدت ميلاد حركة عدم الانحياز في يوغسلافيا وقرار الأمم المتحدة الشهير رقم (1514) الخاص بتصفية الاستعمار وميلاد اللجنة الخاصة بإزالة سياسة الفصل العرقي في الأمم المتحدة، التي لعب فيها السودان دوراً بارزاً بحكم عضويته في تلك اللجنة).
يقول السفير “عمر يوسف بريدو” عن “عبد الكريم”:
(وسط هذه الأجواء والبيئة المشبعة بالأمل والتحدي.. قدم السفير عبد الكريم ميرغني للهند وأقام علاقات وثيقة مع قادتها السياسيين وأعضاء السلك الدبلوماسي خاصة العربي والأفريقي، وكان من أعز أصدقائه خاصة السفير الراحل عمر أبو ريشة والدكتور كلوفيس مقصود مدير مكتب الجامعة العربية في الهند، وشهدت داره حفلات فاخرة وندوات عديدة أمّها كبار المسؤولين الهنود أمثال كرشنان مون وزير الدفاع والسيدة أنديرا غاندي التي حضرت إلى أحد الاحتفالات التي أقامها السفير عبد الكريم ميرغني وهي ترتدي حُلياً من العاج السوداني قدمها لها الرئيس عبود عند زيارته للهند..).
يقول السيد “أمير الصاوي” السفير والإداري المخضرم عن “عبد الكريم ميرغني”: (كانت فترة عمل عبد الكريم ميرغني في الأمم المتحدة فترة عطاء وإنتاج فكري متصل.. لم يخلد للراحة ولم يركن إلى حدود وظيفته، عرف وعرفه المجتمع الدولي حوله.. أحب الناس.. كل الناس.. الناس العلماء، والمفكرون، القائمون العاملون في حقل السياسة، الثقافة، الاجتماع، في ندوات العلم وتطور المجتمع، كلهم من كل جنس ودين.. كلهم يلجأون إليه يطلبون مساهمته ومشاركته في ندواتهم، وحلقاتهم، ينهلون من معينه الذي لا ينضب، يطلبون السماع إلى آرائه.. كانت دراسته عن الكاميرون دراسة عميقة لفتت إليه أنظار القادة الأفارقة، وكذلك دراسته عن الشخصيات الأفريقية المرموقة كانت حديث أروقة الأمم المتحدة..).
“عبد الكريم ميرغني” رجل متعدد المواهب، ومتعدد الصداقات، فقد تحدث عنه السيد “محجوب عثمان” أحد أضلاع المثلث الذهبي في صحيفة (الأيام) وعضو اللجنة المركزية للحزب الشيوعي، متناولاً سيرته وقاصداً، بترصد، أن ينفي عن “عبد الكريم ميرغني” أنه عضو بالحزب الشيوعي.. يقول “محجوب عثمان”:
(كثيرون لا يعلمون سر حميمية الصداقة بين عبد الكريم والشهيد عبد الخالق محجوب وأنا واحد من شهودها، لكننا لم نكن إلا ثمرة من ثمرات لقاء صادق وأمين بين فكرين متقاربين.. لم ينتم عبد الكريم يوماً للحزب الشيوعي السوداني، أو أصبح عضواً فيه، ولكن للذين يعلمون لم يكن في واقع الأمر في حاجة لذلك).
ثم يضيف: (كثيرون قبلي تناولوا جوانب مشرقة من تاريخ صديقنا الراحل، معلماً وطنياً، ودبلوماسياً وسفيراً، وابن بلد وشيخ عرب، وموسعي المعرفة والإطلاع، كثيرون فعلوا، لكن عبد الكريم أوسع من أن يحصى أو يعد..).
فلئن قطع “محجوب عثمان” قول من يحسنون فقط رمي الناس بغير حق، فإن صديقاً حميماً لـ”عبد الكريم” هو السفير “مصطفى مدني أبشر” يضيف أبعاداً أخرى لتعدد شخصية “عبد الكريم” أصدقاء ومعارف.. ويتذكر وهو السفير الخبير تلك الأيام في وزارة الخارجية، وكان وزيرها القمر البدر الأستاذ “محمد أحمد محجوب” وكيف كانت العلاقة بين “المحجوب” و”عبد الكريم”.. يقول: (قدم عبد الكريم للوزارة ووزيرها محمد أحمد محجوب وثائق مهمة يسرت للوزير بمواهبه المتعددة أن يزحف بالدبلوماسية السودانية نحو القمة في فترة وجيزة.. هذا وما كان المجال يخلو من اتكاءة أدبية، حيث يجلس المحجوب مسترخياًَ على مقعد وثير تجاه عبد الكريم وأوراقه المبعثرة ويترنم:
شاهقات الجبال في الأفق سكرى    صاعدات مع الشعاع شعاعا
كتل الثلج مهمها فتراءت        كشيوخ خاضوا الزمان صراعا
ليت شيبي كشيبها موسمي        يرفع الصيف عن صباه القناعا
غير أن الزمان يمضي سريعاً    عابراً بي سدوده والقلاعا
يا ربيع الحياة قف بي تمهل        أنا والله لا أطيق الوداعا)
ثم  يذكر السفير “مصطفى مدني” طرفة بين “المحجوب و”عبد الكريم” فيقول:
(أذكر في واحدة من تلك الجلسات، وكان القسم السياسي قد أعد مذكرة ضافية ترفض مشروع إيزنهاور الشهير الذي قال بملأ الفراغ في الشرق الأوسط بعد انحسار النفوذ البريطاني والفرنسي إثر اعتداء لندن وباريس على مصر.. أذكر أن المحجوب أفضى إلى عبد الكريم بأن مندوب الرئيس الأمريكي علق على المذكرة بقوله: إنها عمل غير صالح.. إنها من كيد الشيوعيين!! رد عليه عبد الكريم يومئذ: إن إمام اليمن كان أول الرافضين.. فهل سيادة الإمام صنيعة شيوعية أيضاً؟!).

أواصل لحلقة واحدة فقط

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية