الاعمدةرأي

إمام محمد إمام يكتب : نجوى قدح الدم مشروع لم يكتمل

بحصافة
إمام محمد إمام

نجوى قدح الدم.. ومشروع لم يكتمل!

لم يكد المرء يجمع أنفاسه من أخبار وَفَيَّات جائحة الكورونا بين بعض أصدقائه ومعارفه، وكثير نصائح أصدقائه من أهل النطاسة والطبابة عن محاذير الكورونا والتقيد الصارم بالحجر الصحي المنزلي، ودائماً أُبدد هواجسي وارتيابي باللجوء إلى صديقي النطاسي البارع من خلال الاستشارات الطبية الهاتفية المتتالية، لمزيد من الاطمئنان على تمام الصحة، وسلامة البدن. وأُراجع معه هذه الأيام، هاتفياً أيضاً في ظل الحبس الكوروني، ما جاء في أمهات كتب الفقه عن القضاء المؤجل (المرض)، وكيف يُفضي إلى القضاء المبرم (الموت)؟ فالإهمال وإغلاق المستشفيات، وغياب الطبابة، وانعدام الوعي الصحي، من مسرعات حدوث القضاء المبرم (الموت) بالكورونا، وغيرها من الأمراض!
وربما تتعدد الأسباب والموت واحد. وهذا ما ذهب إليه الشاعر أبو نصر عبد العزيز بن عمر بن نباتة بن حميد السعدي:
ومن لم يمت بالسيف مات بغيره
تعددت الأسباب والموت واحد
فُجع الكثيرون اليوم (الأربعاء 27 مايو (أيار) 2020، بوفاة المهندسة نجوى عباس قدح الدم التي دخلت جامعة الخرطوم، ونحن منها خروجاً. ولمَّا كانت نجوى قدح الدم أم درمانية قُحة، تلقت مراحلها التعليمية الثلاث في أم درمان، ومنها إلى جامعة الخرطوم، حيثُ درست الهندسة الكيميائية في كلية الهندسة التي سودن عمادتها البروفسور دفع الله عبد الله الترابي – نسأ الله في عمره -.
عملت الراحلة نجوى قدح الدم لمدة عامين أو يزيد قليلاً، مساعد تدريس بجامعة الخرطوم إلى حين حصولها على ماجستير في الطاقات الجديدة والمتجددة، فاشرأبت إلى العمل في الخارج، حيثُ التحقت بوكالة ناسا الأميركية في فلوريدا عام 1991، ﺛﻢ ﺍﻧﺘﻘﻠﺖ ﻣﻨﻬﺎ ﺇﻟﻰ ﺍﻟﻤﻌﻬﺪ ﺍﻟﻌﺎﻟﻤﻲ ﻟﺪﺭﺍﺳﺎﺕ ﺍﻟﻔﻀﺎﺀ في مدريد. وشدت رحالها ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ، حيثُ حصلت ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺎﺟﺴﺘﻴﺮ ﻓﻲ ﺍﻟﺘﻨﻤﻴﺔ ﺍﻟﻤﺴﺘﺪﺍﻣﺔ ﻭﻣﺸﻜﻼﺕ ﺍﻟﺒﻴﺌﺔ. ولم يكن طموحها حصد الدرجات العُلا، لتزيين الحوائط والرفوف، بل كانت تواقة إلى خدمة وطنها والبشرية جمعاء، فالتحقت في سبيل ذلكم الهدف، ﺑﻤﻨﻈﻤﺔ ﺍﻷﻣﻢ ﺍﻟﻤﺘﺤﺪﺓ ﻓﻲ ﻣﻜﺘﺒﻬﺎ ﺍﻟﺮﺋﻴسي ﻓﻲ ﻓﻴﻨﺎ بالنمسا.
ولمَّا كانت رغبتها في التزود بالعلم والعلوم مُلحة، لم تتردد في ترك ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﻧﺎﺳﺎ ﻟﺮﻏﺒﺘﻬﺎ ﺍﻟﻜﺒﻴﺮﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﺤﺼﻮﻝ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭﺍﻩ، ﺣﻴﺚ ﺃﺑﻠﻐﺖ ﺍﻟﻮﻛﺎﻟﺔ أنها تريد ﺃﻥ ﺗُﺤﻀِّﺮ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭﺍﻩ، ﻭﺍﻓﻘﻮﺍ ﻭﺑﻌﺜﻮﻫﺎ إلى جاﻣﻌﺔ ﻓﻲ ﻣﺪﺭﻳﺪ، ﻟﻜﻦ ﻭﺍﻟﺪﻫﺎ ﻛﺎﻥ ﻳﺮﻯ ﺃﻥ ﺇﺳﺒﺎﻧﻴﺎ ﺑﻠﺪ ﺍﻟﻔﻠﺴﻔﺔ ﻭﺍﻟﻔﻦ ﻭﺍﻟﻌﻠﻢ ﺍﻷﺩﺑﻲ، ﻭﻳﺠﺐ ﺃﻥ ﺗُﺤﻀِّﺮ ﺍﻟﺪﻛﺘﻮﺭﺍﺓ ﻓﻲ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ، ﻭﻓﻲ ﺫﻟﻚ ﺍﻟﻮﻗﺖ ﺟﺎﺀﺗﻬﺎ ﻣﻨﺤﺔ ﻣﺎﺟﺴﺘﻴﺮ ﻣﻦ ﺃﻟﻤﺎنيا، وعلى الفور، قرﺭﺕ ﺗﺮﻙ ﺍﻟﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺍﻟﻮﻛﺎﻟﺔ، ﻭﺫﻫﺒﺖ ﺇﻟﻰ ﺃﻟﻤﺎﻧﻴﺎ. وﻛﺎﻧﺖ الفتاة ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ، ﻭﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻴﺔ ﺍﻟﻮﺣﻴﺪﺓ ﻓﻲ ﺍﻟﻘﺴﻢ ﺗﻌﻤﻞ ﻓﻲ ﺗﺮﻛﻴﺐ ﺷﺮﺍﺋﺢ ﺍﻟﺴﻠﻜﻮﻥ ﺍﻟﺮﻗﻴﻘﺔ ﻓﻲ ﺃﻃﺮﺍﻑ ﺍﻟﻤﺮﻛﺒﺎﺕ ﺍﻟﻔﻀﺎﺋﻴﺔ، ﺣﻴﺚُ ﺗﺮﻛﺖ ﺍﻟﺘﺠﺮﺑﺔ ﺑﻨﺎﺳﺎ ﺃﺛﺮاً كبيراً ﺑﺪﺍﺧﻠﻬﺎ ﻷﻧﻬﺎ ﺃﻭﻝ ﺗﺠﺮﺑﺔ ﺧﺎﺭﺝ ﺍﻹﻃﺎﺭ ﺍﻟﺴﻮﺩﺍﻧﻲ ﻭﺍﻟﻌﺮﺑﻲ، ﺑﺠﺎﻧﺐ ﺃﻧﻬﺎ ﺃﻋﻄﺘﻬﺎ ﺧﺒﺮﺓ ﻭﺭﺅﻳﺔ ﻋﻤﻠﻴﺔ ﻟﻠﺘﻌﺎﻣﻞ ﻣﻊ ﺍﻷﻭﺭوبيين ﻭﺍﻷميركبين، ﺣﻴﺚ، ﺗﻌﻠﻤﺖ ﺍﻟﺠﺪﻳﺔ ﻭﺍﻻﻟﺘﺰﺍﻡ ﺑﺎﻟﻌﻤﻞ ﻭﺍﻟﺪﻗﺔ ﻭﺍﻟﺘﻨﻈﻴﻢ ﻭﺍﻟﺘﺤﻘﻖ ﻣﻦ ﺍﻟﺒﺤﺚ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻟﻤﺜﺎﺑﺮﺓ ﻭﺍﻟﺼﺒﺮ ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻨﺘﺎﺋﺞ. ﻛﻤﺎ ﻛﺎﻥ ﻟﻬﺎ ﺑﺼﻤﺎﺕ ﻛﺒﻴﺮة، ﺣﻴﺚُ ﻭﺿﻌﺘها ﻋﻠﻰ ﺍﻟﻤﺴﺎﺭ ﺍﻟﻌﻠﻤﻲ ﻭﺍﻟﺘﻮﺿﻴﺤﻲ.
في رأئي الخاص، لم تجد الراحلة نجوى قدح الدم، موضعاً في الخارطة السياسية السودانية، إلا قبل بضع سنين من وفاتها، وذلكم عندما سعت سعياً حثيثاً في مبادرة وساطة لتقريب شُقة الخلاف بين الرئيس السوداني السابق عمر البشير والرئيس الأوغندي يوري موسفيني. وكان الرئيس السوداني السابق عمر البشير يُريد أن ينزع من الحركات المسلحة داعمها الأول، ومظلتها الكُبرى، الممثلة في الرئيس الأوغندي موسيفيني، وفي المقابل كان الرئيس موسفيني يرغب في ألا يعترض السودان على تدخلات موسفيني في جنوب السودان، فاستطاعت الراحلة نجوى قدح الدم في إحداث تلكم المقاربة، فنجحت في وساطتها، وأتت بموسفيني إلى الخرطوم في زيارة تاريخية مشهودة. وحرص موسفيني على رد جميل وساطتها، وإبداء قدرٍ من التقدير لجهودها في تقارب الخرطوم وكمبالا، حيثُ زارها في بيتها بحي العباسية الأم درماني.
ومما لا ريب فيه، أن ثمة عوامل ساهمت بأقدارٍ متفاوتة في نجاح تلكم الوساطة، منها إحساسها بالمسوؤلية الوطنية، وضرورة الإسهام الفاعل في إحلال السلام المستدام في وطنها السودان. كما أنها وجدت دعماً قوياً، ونصراً مؤزراً على سفير السودان لدى أوغندا آنذاك، الذي لم يكن مرحباً بجهود وساطتها، من السيد علي كرتي وزير الخارجية السوداني آنئذٍ. وأشارت في تصريحات سابقة إلى أنه عُرض عليها العمل كسفيرة في أوغندا، لكنها رفضت المنصب لرغبتها في العمل الدؤوب على تطوير علاقة السودان بأوغندا، وتحقيق السلام في المنطقة.
ولا يخفي لكثير من الباحثين، أن ثمة دور إسرائيلي في الاختراقات الدبلوماسية للراحلة نجوى قدح الدم. وقد ظهر ذلكم جلياً في دورها غير المعلن في الإعداد للقاء عنتيبي الذي جمع بين الفريق أول عبد الفتاح البرهان عبد الرحمن رئيس المجلس السيادي السوداني وبنجامين نتنياهو رئيس الوزراء الإسرائيلي في فبراير (شباط) الماضي.
وتعد مهندسة لقاء رئيس المجلس السيادي السوداني الفريق أول عبد الفتاح البرهان برئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو، في فبراير (شباط) الماضي بمدينة عنتيبي الأوغندية. وكانت الراحلة قدح الدم – يرحمها الله – شديدة التحفظ عن الإدلاء بأي معلومات تنفي أو تؤكد مشاركتها في هندسة لقاء عنتيبي، والذي شكّّل نقطة تحوُّل كبيرة في السياسة الخارجية السودانية لجهة التطبيع مع إسرائيل! وكانت تكتفي بتصريحٍ واحدٍ، مؤكدةً أنها حضرت اللقاء بصفتها سفيرة في القصر الجمهوري للسودان.
وقد يتساءل البعض عن علاقتها بإسرائيل.
لا يُنكر أحد، أن فترة عملها في الأردن والولايات المتحدة الأميركية وبعض الدول الأوروبية، وبنشاطها العلمي والاجتماعي، قد تكون أثارت عيون المخابرات الإسرائيلية في تلكم البلدان، فأحدثت هذا التقارب المشهود بينها وبين الإسرائيلين! وكانت حريصة إلى إنفاذ مشروع التطبيع بين السودان وإسرائيل، باعتباره مفتاح تطوير العلائق السودانية الأميركية، وأن مضاغطة اللوبي اليهودي في أميركا ستُزيل اسم السودان من قائمة الدول الراعية للإرهاب! ولكن مشروع تطبيع السودان مع إسرائيل لم يكتمل!
ومن المهم الإشارة هنا، إلى أن الراحلة نجوى قدح الدم، كانت تُوصم نفسها بأنها باحثة وعالمة وناشطة سياسية، ومهتمة بالشأن العام، تقول عن نفسها إنها مستقلة، وقامت بالعديد من الأدوار الدبلوماسية.
أخلص إلى أنني لا أدعي طول صداقةٍ أو قديم معرفةٍ بالراحلة نجوى قدح الدم، ولكن في أحد الأيام اتصلت بيّ هاتفياً، لتقول ليّ بالإنجليزية I read your informative obituary about Fadallah Mohamed. فهذا كان مدخلي في التعرف عليها.
وخلال رحلتها العلمية تزوجت من أستاذها، ألماني الجنسية، نومان الذي أسلم على يد والدها، وسمى نفسه أحمد نعمان.
وقد علمت من كثيرين، أنها كانت تهتم وتحتفي بالسودانيين في البلدان التي عملت بها، فكانت بحقٍ وحقيقةٍ السفير المتجول للسودان، من ذلك، حدثني الأخ الصديق البروفسور مأمون محمد علي حُميدة، أنه في مطلع التسعينات من القرن الماضي، كان في زيارة إلى هراري عاصمة زيمبابوي، لحضور مؤتمر علمي هناك، وكانت الراحلة نجوى قدح الدم تعمل في جامعة زيمبابوي وقتذاك، فدعته والأخ السفير جعفر حسن صالح إلى العشاء في منزلها، بعد أن استأذنت زوجها، الغائب في النمسا يومذاك، بأنها دعت إلى العشاء في منزلها كل من البروفسور مأمون حُميدة والسفير جعفر حسن صالح، ولمَّا وصل الضيفان إلى المنزل، اتصلت بزوجها لتُخبره بوصول الضيفين، مما يُؤكد التزامها بالتقاليد السودانية الأصيلة، رغم أنها متزوجة من أجنبي. ولا ينبغي نسيان دورها في فك أسرى المجاهدين من سجون الحركة الشعبية لتحرير السودان، والإشراف بنفسها على حضورهم بالطائرة من كمبالا إلى الخرطوم، وقد تحدث بعضهم عن هذا الدور بإشادةٍ وتقديرٍ.
ألا رحم الله تعالى المهندسة نجوى قدح الدم رحمةً واسعةً، وأنزل عليها شآبيب رحماته الواسعات، وتقبلها الله قبولاً طيباً حسناً، وألهمنا وآلها وذويها وأصدقاءها وزملاءها، وعارفي فضلها، الصبر الجميل.
ولنستذكر جميعاً في هذا الصدد، قول الله تعالى:
“وَمَا كَانَ لِنَفْسٍ أَن تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ كِتَابًا مُّؤَجَّلًا ۗ وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الدُّنْيَا نُؤْتِهِ مِنْهَا وَمَن يُرِدْ ثَوَابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْهَا ۚ وَسَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ”.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية