تقارير

ما وراء إعفاء "الطيب أبو قناية" من مفوضية محاربة الفساد

{ كلما اقترب موعد مضرب لاستئناف التفاوض بين دولتي شمال وجنوب السودان، تصاعدت أصوات الرافضين للتسويات، واستشعرت جيوب التطرف من دعاة الحرب والمستثمرين في مناخاتها والمتاجرين بأرواح الضحايا أن مصالحهم باتت مهددة، فللحرب فوائد تذهب إلى جيوب دعاتها والمستفيدين من مآسيها وما أكثر هؤلاء هنا وهنا.. وللحرب مقدمات وأسباب، وما تشهده العلاقات بين السودان ودولة جنوب هو مخاض لمرحلة جديدة.. دعاة الحرب في الجنوب (يحرضون) “سلفاكير” على “البشير”، ولهؤلاء مصالح ترعاها الحرب.. بعض جنرالات الجيش الشعبي لا تروق لهم إلا وضعية الجيش الشعبي قبل الانفصال، مهيمناً على القرار السياسي وصاحب سطوة و(فيتو) على السياسيين.. وهؤلاء من حملوا الجنوب نحو الانفصال، واحتضنوا كل أطياف المعارضة المسلحة (لأذى) الشمال، كأنهم لم يشبعوا من حرب السنوات الطويلة، وتتوق أنفسهم الأمارة بالشر إلى فتح باب جهنم آخر ليلجوا منه منتفعين من الحرب.. وفي الشمال هناك تيارات تبث الكراهية حتى بين ما تبقى من السودان، تثير هذه التيارات (الفزع) وتدق (نقاقير) الخوف.. (الجنوبيون جوكم).. (الجيش الشعبي على مشارف هجليج).. وأخبار عن أسلحة إسرائيلية وأمريكية لتبرير مواقف سياسية (داعية) لحرب لن يموت فيها إلا الضحايا من البسطاء، ولا يشقى بها سماسرة الأراضي وملاك الشركات وقاطنو الأحياء الفارهة في أطراف الخرطوم.. الحرب بشاعتها تتبدى لكل ذي خلق ووجدان وقلب معافى حينما تطأ قدماه مستشفى السلاح الطبي بأم درمان ويشاهد صور أبطال القوات المسلحة الجرحى والمصابين في مناطق العمليات، والزوجات والأمهات يجلسن (القرفصاء) تحت الأشجار ينتظرن شفاء فلذات الكبد من جراح أصابتهم دفاعاً عن وطن آن له أن يستريح من عناء الحروب ومسغبة الفقر وجوع البطون.. ليس بين ضحايا الحروب دائماً دعاتها ونافخو كيرها ومشعلو نيرانها.
في هذا المناخ الداخلي وإرهاصات الحرب تلوح في الأفق وانسداد قنوات التواصل بين الدولتين، بخطأ تقديرات سياسية للمبعوث “أمبيكي” حينما دفع كوسيط للقاء “البشير” و”سلفاكير” في أثيوبيا بلا تحضيرات، ولا ترتيبات لإنجاح القمة التي فشلت، وبعدها بسط الإحباط ذراعيه من نمولي إلى حلفا.. وأهدى فشل القمة لدعاة الحرب من أصحاب الوجوه الناعمة والوجوه التي (نعمتها) النعمة للعب دور سالب في التعبئة ودق طبول الحرب.
{ القطاع السياسي والقرار الشجاع
في مناخ التعبئة السالبة وإرهاصات نشوب الحرب، اتخذ المؤتمر الوطني من خلال أنشط قطاعات الحزب وأهمها وأكثرها انتظاماً في عقد الاجتماعات (القطاع السياسي)، قراراً بعد تداول عميق بضرورة تنفيذ ما تم الاتفاق عليه بين دولتي السودان وجنوب السودان والدخول في مفاوضات مع متمردي قطاع الشمال.. لكنه آثر استخدام صفة (متمردي جبال النوبة والنيل الأزرق) بدلاً عن قطاع الشمال، ربما تحسباً لردة فعل متوقعة من بعض جيوب التطرف في الحزب نفسه الذين أشاعوا مناخاً من الرعب وبثوا الخوف في أوصال كل من يدعون للتفاوض مع قطاع الشمال.. لكن القطاع السياسي في المؤتمر الوطني فتح باباً لن يُغلق، وبدأت قناعات أكثرية عضويته من المتنفذين في الحزب مع خيار تنفيذ اتفاق التعاون مع دولة الجنوب والمضي قدماً في التفاوض حول القضايا الخلافية الأخرى.. ومنطق القطاع السياسي في المؤتمر الوطني، أن قضايا الحدود قد اتفق على (85%) من الحدود، واختلف الطرفان في (15%) من جملة الحدود المشتركة.. فلماذا نرهن الاتفاق للوصول إلى حل على (15%) فقط من الحدود؟ وما أكثر القضايا الحدودية العالقة بين الدول التي لم تحسم منذ مئات السنين، فكيف يضع السودان قيوداً على عنقه وينتظر اتفاقاً شاملاً قد لا يبلغه قريباً؟؟ ولكن المؤتمر الوطني في ذات مسار البحث عن التسويات (أوفد) الدكتور “نافع علي نافع” والبروفسير “إبراهيم غندور” إلى دولة السويد الشهر الماضي في زيارة ذات أهداف سياسية لكسر طوق العزلة عن البلاد، ودرء مخاطر قرارات الحكومة التي صوبتها نحو المنظمات والمراكز الثقافية الوطنية والأجنبية، وما أثارته تلك القرارات من ردود فعل في الغرب في غير مصلحة السودان الذي يبحث عن الأصدقاء في الغرب، ولكن بيده يخسر أغلب دول الدنيا.. وقد أفصح السفير السويدي في الخرطوم عن ما جرى من مفاوضات مع د. “نافع”، وقال السفير إن بلاده قد دعت الحكومة لاستئناف التفاوض مع قطاع الشمال، إضافة لتحفظات السويد على المعاملة التي تجدها المنظمة العاملة في السودان، وإن حل قضايا المنطقتين سيكون حافزاً ومفتاحاً لتجاوز القضايا الخلافية مع الجنوب وإعطاء الأولوية للحوار السياسي وليس البندقية، ويجد المؤتمر الوطني نفسه في وضع بالغ الحرج حينما ترفض بعض جيوبه التفاوض مع قطاع الشمال، بينما الحكومة وافقت على قرار مجلس الأمن الدولي (2046) القاضي بالتفاوض لحل مشكلتي النيل الأزرق وجنوب السودان وفق مرجعية اتفاق أديس أبابا الموسوم بـ(نافع- عقار).. لكن الواقع يشير إلى ضرورة أن يتخذ الحزب في أعلى قمته قراراً إستراتيجياً بشأن مسألة الحرب والسلام والتفاوض مع الشماليين، والتسوية مع دولة الجنوب وسد باب المزايدات و(الابتزاز) من قبل جماعات من دعاة الحرب هم في حصونهم المشيدة، واثني عشر مليوناً من جملة سكان ما تبقى من السودان مصالحهم مع دولة الجنوب معطلة، وملايين من الثروة الحيوانية تتضور جوعاً وتنفق عطشاً في الحدود من أجل إرضاء نزوات خطيب مسجد أمام صاحب صحيفة ومنبر يقتات من النزاعات والخلافات.
ويدرك المؤتمر الوطني أن قرار مجلس الأمن (2046) لمصلحته وليس ضده كما يتصور البعض. وقد فكك القرار تحالف الجبهة الثورية لمكوناته الدارفورية، تذهب إلى الدوحة وتنضم لوثيقتها، وقطاع الشمال تتم تسوية أوضاعه من خلال اتفاق (نافع- عقار) وهو لا يزال صالحاً لإطفاء بؤر النزاع.. ولكن كثيراً من القادة السياسيين لا يقرأون القرارات ولا يفسرونها إلا بعقلية مسكونة بالمؤامرة، ومثلهم ومعتمد شندي سابقاً حينما بدأ يخاطب الجماهير يوم افتتاح جسر (شندي- المتمة) وأخرج حزمة من الأوراق من جيوبه، وقال: هذه قرارات مجلس الأمن، من الرقم كذا إلى (14) قراراً، أصدرها مجلس الأمن بشأن السودان.. ومزق المعتمد أو المحافظ القرارات ونثرها على رؤوس الجماهير من عامة الناس، الذين هم في الغالب ضحية لجهلهم بالقرارات، لتهتف الجماهير لشجاعة المعتمد الثوري مع أن القرارات التي تم تمزيقها خمسة منها لمصلحة السودان، ولكنه لا يميز بين الصالح والطالح في غمرة حماسته ونشوته يوم افتتاح جسر (المتمة- شندي)، ومثله كثير من القيادات يعدّون كل العالم (يتآمر) فقط على السودان. ولو قرأ السيد “أمبيكي” ما يكتب عنه في الصحافة السودانية من توصيف بالتحيز ومولاة الحركة الشعبية لنفض يده عن الوساطة وترك السودانييم في حالهم.
{ ثلاثة رجال جدد
ثلاثة من جال (العدول) نشطوا خلال الأيام الأخيرة لإنقاذ السودان ودولة جنوب السودان من المضي في طريق الحرب المحفوف بالمخاطر والمزالق.. وهؤلاء القيادات من الرجال (المحترمين) هم: د. “منصور خالد” والمشير “عبد الرحمن سوار الذهب” ومولانا “أبيل ألير”.. جميعهم دون تنسيق مسبق ينشطون الآن في مهمة واحدة وبنوافذ متعددة لإنقاذ البلدين من الانزلاق إلى أتون الحرب.. وبدأت مبادرة د. “منصور خالد” منذ عودته من لندن، حيث أخذ يتردد بين الخرطوم وجوبا.. في الخرطوم يؤانس د. “منصور خالد” أصدقاءه من صناع اتفاق نيفاشا من النائب الأول للرئيس و”إدريس محمد عبد القادر” و”يحيى حسين” و”سيد الخطيب”.. ويحترم د. “منصور خالد” الرئيس “عمر البشير” ويعدّه الرجل القادر وحده على صنع السلام.. وفي وجوبا يحظى د. “منصور خالد” بثقة “سلفاكير” وقيادات الحركة الشعبية، ولا ينسى الجنوبيون لـ”منصور خالد” دوره السياسي في تقديم الحركة الشعبية للعرب والأوروبيين، وتسخير علاقاته الواسعة لخدمة مشروع السودان الجديد قبل وفاة المشروع يوم انفصال الجنوب، وبعد انفصال الجنوب انتاب د. “منصور خالد” أسى وحزن عميق وشعور بخيبة الأمل والمسعى، فكتب كتابه “الصغير” (انفصال جنوب السودان زلزال الشرق الأوسط وأفريقيا).. وندب حظه العاثر وغشيه المرض، ولكنه تعافى من الصدمة النفسية التي أحدثها الانفصال ليقود مبادرة صامتة بعيداً عن الإعلام والأضواء.. تمشي جهوده على حقول من الألغام، ونثر المتطرفون على درب التسوية ما نثروا من (العوائق)، لكنه مضى بين جوبا والخرطوم لإحياء اتفاق (نافع- عقار) من جهة، والسعي بكلتا يديه إيقاف تدحرج صخرة الحرب من أعلى القمة إلى أسفل الوادي.. واستشعر المشير “محمد الحسن سوار الذهب” ذات ما دفع “منصور خالد” للمبادرة، وكسر المشير حائط العزلة تحت ستار منظمة الدعوة الإسلامية التي لها في الجنوب حتى اليوم نشاط دعوي، رغم أنها في الشمال انحسر دورها و(حاربها) الذين خرجوا من صلبها و(تنكروا) لفضائلها وجمائلها.
واستقبلت حكومة جوبا المشير “سوار الذهب” بما يليق بالرجل وأنزلته مقاماً يستحقه.. تلك هي أخلاق السودانيين أينما كانوا ومهما تباعدت المسافات وتصدعت البلاد.. ولم يتحدث المشير “سوار الذهب” إلى “سلفاكير” عن مستقبل منظمة الدعوة الإسلامية في الجنوب ولا عن حرية الدعوة هناك، بل تحدث عن الأوضاع السياسية التي يعيشها البلدان، ومآلات الصراع الذي كاد أن ينزلق إلى حرب.. وقبل عودة المشير “سوار الذهب” من جوبا، غادر الخرطوم مولانا “أبيل ألير” نائب رئيس الجمهورية الأسبق والسياسي الجنوبي الصامت إلى ذات المهمة التي يضطلع بها السيدان د. “منصور خالد” و”سوار الذهب”.. تقريب وجهات النظر وتنفيذ اتفاق التعاون المشترك دون مساومات جزئية.. فهل تفلح جهود القيادات والرموز الوطنية الثلاثة المتفق عليها في الخرطوم وجوبا في نزع فتيل الاحتقان الذي يعيشه البلدان؟ أم ما فشل فيه “أمبيكي” ومبعوث الولايات المتحدة والرئيس الأثيوبي لن يفلح السودانيون وحدهم في الوصول إليه؟!
وجهود ومبادرات الرجال الثلاثة إذا تم استثمارها، واتخذت الإرادة السياسية في الجنوب والشمال قرارات حاسمة بالإقبال على التفاوض بقلب مفتوح وتقدير للمسؤولية الوطنية وإعلاء مصالح الشعوب (المسكينة) على مصالح النخب، فإن السودانيين من الوطنيين، الشمالي والجنوبي، (سيكتبون لأنفسهم تاريخاً جديداً)، ولكن إذا ما أصبحت أبواق الحرب هي سيدة الساحة وأصحاب المصالح يقودون العالم للهاوية، فإن الحرب لا شك واقعة قريباً جداً.
{ ما وراء إعفاء “أبو قناية”
لم تفسر أية جهة رسمية الأسباب التي دفعت الحكومة لاتخاذ قرار بإعفاء السيد “الطيب أبو قناية” من منصبه كرئيس لآلية محاربة الفساد في الدولة، بعد انقضاء عام واحد فقط من تكوين الآلية.
وفي مثل هذا المناخ (الملبد) بالغيوم، كثرت التأويلات والتفسيرات لأسباب الإعفاء بعد أن وضع كثيرون آمالاً على عنق الرجل، ووصفوه بالنزاهة والصرامة والاستقامة، مما يؤهله للعب دور مهم في محاربة الفساد وتطهير الدولة من المفسدين.. ولم يسأل هؤلاء أنفسهم عن الصفة التي تخول لـ”أبو قناية” محاسبة المفسدين وهل يملك سلطة وبيده قانون لإنفاذ مهمته؟! السيد “أبو قناية” تم تعيينه بقرار جمهوري بصفته مفوضاً، ولم يصدر قرار بإنشاء مفوضية لمحاربة الفساد، وسميت في القرار (آلية) ولكن هل في القانون توصيف لماهية (الآلية).. عام والرجل يصرف راتبه أو لا يصرفه هو أعلم بذلك، ولم يستطع الإقدام على أية خطوة لتنفيذ المهام التي وردت في قرار تعيينه، ولم يستطع تعين موظف واحد ليعمل معه، وآليته يفترض أن تصبح مفوضة وتصدر قانوناً خاصاً لها.. ولكن شيئاً من ذلك لم يحدث.. وربما قدرت الحكومة وفكرة وتراجعت عن (تأسيس) مفوضية لمحاربة الفساد حتى لا يشكل ذلك اعترافاً ضمنياً بتمدد الفساد في البحر والبر، والإشارة إلى عجز القوانين والأجهزة القائمة في محاربة الفساد، فصدر قرار إعفاء “أبو قناية” بعد عام فقط من تعيينه، ولا علاقة للإعفاء بقصة مدير ديوان الضرائب الذي عُيّن لمدة (24) ساعة ثم فُصل لأسباب مسكوت عنها.. ولكن يبقى “أبو قناية” شخصية مثيرة للجدل غامضة، يتدثر بالصمت الشديد، لا يتحدث، لا يضحك، لا يبتسم، وذهب الآن في استراحة حتى تعيينه في مقبل الأيام في موقع جديد.. فالإنقاذ لديها أبناء بطنها هؤلاء (يتقافزون) بين المواقع كالفراشات بين الأزهار!!

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية