مشهد الشعب الألماني قبيل مشروع مارشال وهو يلعق جراح البؤس والشقاء ويذوق طعم الهزيمة النفسية كان بسبب تساوي جوالاً من المارك الألماني برغيفة واحدة، وجميع الاحتجاجات العارمة التي حدثت في أفريقيا وأمريكا اللاتينية كانت نتيجة لعدم وجود الخبز في الأفران، وما من تحرك شعبي على أي سلطة في العالم إلا وكان وقوده أزمة الرغيف.. هكذا ظل رغيف الخبز بألقه وسحره وخصوصيته يشكل المعمل الذي يولد الانقضاض والكراهية على الأنظمة التي تتجاهل مقداره في الحياة البشرية، وبذات القدر تشكل هذه السلعة الترياق الذي يحمي الأنظمة من السقوط عندما تقدمه في قالب الوفرة الكافية على الجماهير.
سلعة الرغيف تمنح المواطن الطاقة الكاملة وتجعل الإنسان يفكر ويتحرك وينتج وتلهم العقل بالإبداع والتفاني، ولا يوجد إنتاج فاعل بدون تسيد رغيف الخبز على موائد الناس.. ولا توجد تنمية اقتصادية واجتماعية في أي كيان تظل فيه صفوف الرغيف الطويلة من المشاهد الحية في الساحات حيث يستعصي الحصول عليه بشق الأنفس.. من الواضح في الشارع العام أن أزمة الرغيف ما زالت طاحنة تعلو وتهبط فضلاً عن عدم نجاح السلطات حتى الآن في وضع المعالجة الناجعة لهذه السلعة الإستراتيجية، بل ظلت الحكومة في أعلى مستوياتها ممثلة في رئيس الوزراء “معتز موسى” تبذل قصارى جهدها في إغلاق ملف الدقيق بكل تعقيداته وتشابكه وملامحه الضاربة في الغموض.. ها هو الدكتور “عادل عبد العزيز” الخبير الاقتصادي المعروف يمنح الوسائط الإعلامية معلومات دقيقة عن كميات الدقيق الذي يستهلكها مواطن ولاية الخرطوم وموقف السُلطات من دعم السلعة، فهو يقول إن الخرطوم تستهلك (43) ألف جوال دقيق يومياً، لحوالي (7) ملايين شخص بدعم يصل إلى (35) مليون جنيه في اليوم الواحد!! فالتساؤلات المنطقية تكمن في البحث عن أسباب الأزمة الحقيقية في ندرة الخبز وظهور صفوفه الكثيرة في الشوارع والحواري بالولاية، فمن المسؤول عن هذه الإشكالية الاجتماعية الخطيرة؟.. الحكومة أم المطاحن أم اتحاد المخابز أم الوكلاء أم شركات الدقيق أم السماسرة الذين لا يرحمون المواطن المكدود؟.. علاوة على ذلك فإن السؤال المهم يتمثل في قدرة الحكومة على المواصلة في تقديم الدعم للرغيف في ظل جريان قيمة الدولار الهائج على حساب الجنيه المسكين.
أزمة الدقيق تؤرق الحكومة والمواطن على حد سواء فهي تدق في صلب طمأنينة المجتمع واستقراره وراحة البال للمواطنين، فالشاهد أن قضية الدقيق تمثل كابوساً مخيفاً في وجه العوائل السودانية، وكم خدعت هذه الأسر في أزمة الرغيف حينما تتحدث السلطات عن نهاية الضائقة ثم تعود الإشكالية القهقري من جديد.. فالواضح أن بقاء الإنقاذ كسُلطة لها مسؤوليتها الضخمة ورسالتها الأخلاقية والوجدانية على السودانيين ترتكز على ضرورة وفرة سلعة الرغيف التي أصبحت تمثل طعام الأغلبية الساحقة من المواطنين، فهي لا تحتمل رفع الدعم ولا تقبل الندرة والتأرجح ولا ينفع معها الوعود البراقة والإشارات المبسترة، فلا بد من كشف صناع الأزمة الحقيقيين المتوارين خلف الكواليس ومحاسبة الذين يشكلون الحماية لهم، فقد دخل رئيس الوزراء “معتز موسى” في معركة الإصلاح الشامل التي يمثل الرغيف الفصل الأول في هذه الملحمة الشاقة!!..