رأي

الحاسة السادسة

(نوفمبر).. مد الحنين.. وجذر الواقعية!

رشان أوشي

“غادة”، عندما أمسكتُ الورقة لأكتب، كنت أعرف أن شيئاً واحداً فقط استطيع أن أقوله، وأنا أثق من صدقه وعمقه وكثافته، وربما ملاصقته التي يخيل إليّ الآن أنها كانت شيئاً محتوماً وستظل كالأقدار التي صنعتنا: إني أحبك». “غسان كنفاني”..
أجابته “غادة السمان”: «ولم أقع في الحُب، لقد مشيت إليه بخطى ثابتة، مفتوحة العينين حتى أقصى مداهما، إني واقفة في الحُب، لا واقعة في الحُب، أريدك بكامل وعيي».
قيل “نوفمبر” شهر العشاق، ولكنه ليس “نوفمبر” إنما هو الشتاء، تفيض المشاعر، ويستيقظ الحنين، تبقى عواطفنا مدا يفارق جذر الركود في “مايو”، يجعلنا الشتاء أكثر دفئاً، وقرباً من ذواتنا..
ليالي الشتاء الطويلة، تدفعني للهروب إلى موطني السري، استعيد ذاتي المسلوبة نهاراً، رهق الحياة والعمل، كبد الدنيا وشقاؤها، ضجيج الشوارع، ومحطات الإحباط، شوارع التوتر، وبيوت الضحك المصطنع عنوة، تدفعني للهجرة يومياً إلى فنائي الشاسع في وجداني، أناجي نفسي، أعاملها بالرفق الذي أحبه، أسكب لها ما لم يكتبه “درويش” في الحُب، وما لم يقله “بوشكين”، أعود أنا أميرة روحي، ومحبوبتها السرية.
ليالي الشتاء الطويلة، تدفعني لاجترار كل ما دار بيننا من همس الأعين وإصغاء قلوبنا لبعضها، تداهمني ذكرياتي كفؤوس ومعاول، تقطع ليل وحدتي الطويل، ذلك الشوق الجنوني، الذي ينهش قلبي وذاكرتي، يدميها، يبكيها، ينتزعها من هدوئها وركودها انتزاعاً.. وتظل أنت فارس تلك المعركة المحتدمة، وعيناك منتصراً وحيداً، وأعود أنا لذاتي مهزومة، تغتالني خناجر الخيبة، وسيوف الحُب المشحوذة وهنا مني.
كل ليلة باردة، تدفعني عواصف الحنين إلى مدن فارقناها، وشواطئ ناجيتك فيها وحدي، وطرقات قطعتها برفقتي ذكرياتنا، وضحكات السخرية المحببة، عندها تتقلص الدنيا في حديثك، وتمضي السنوات والشهور بسرعة البرق الذي يشبه الغضب في عينيك.
تتنافس النجوم في الشتاء وسماؤه الصافية على اللمعان، ترسل لي حلمك الذي تعيشه الآن وأنت هانئ في نومك الملائكي، وتصير المجرة مسرحاً مفتوحاً لتراجيديا فراقا لم نختاره ولكنه اختارنا، انتقانا بعناية المهتم، ورعاية الأب الروحي، انتزعنا من روحنا، وألقى بأجسادنا إلى مهب الوحشة والحنين.

 

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية