هل ينقذ البشير اتفاق التعاون من الانهيار؟ الخرطوم وجوبا.. السير على حافة الهاوية!
{ الاتصال الهاتفي الذي أجراه الرئيس “البشير” (الاثنين) الماضي مع رئيس دولة جنوب السودان “سلفاكير ميارديت”، ودعوة وزير الدفاع الفريق أول “عبد الرحيم محمد حسين” لنظيره الجنوبي هذا الأسبوع لزيارة الخرطوم، واستئناف اللجنة السياسية نشاطها (الاثنين) المقبل هي دلالات ومؤشرات لإحياء اتفاق التعاون الموقع في أديس أبابا، الذي احتفى به العالم قبل السودانيين، وحينما دقت ساعة الحقيقة وبدأت خطوات التنفيذ اكتشف الطرفان عمق الأزمة، وتراجعا عن الإقبال على تنفيذ الاستحقاق لتسود أجواء التشاؤم ونذر الحرب والمواجهة، بعد أن تمددت شلالات الفرح ورقص الراقصون في جوبا والخرطوم فرحاً بغروب شمس حقبة وبزوغ شمس حقبة أخرى من الأمل، رغم وجود جماعات معارضة للاتفاق من قبل دعاة الحرب في البلدين ممن يسكنون مفاصل الحكومتين ويتغلغلون في قيادة حزب المؤتمر الوطني والحركة الشعبية يبثون الكراهية ويجهرون بالفسق السياسي بالدعوة لنشوب حرب حدودية لتهلك من الأنفس ما تهلك، وتهدر ما تبقى من موارد ضعيفة، ولكن مبادرة الرئيس “البشير” بالاتصال المفاجئ بـ”سلفاكير” في مناخ الأزمة الحالية وعودة الولايات المتحدة الأمريكية كلاعب فاعل وأساسي في الساحة الدولية من خلال وجود المبعوث الأمريكي “برنستون ليمان” في الخرطوم ولقاءاته مع القيادات الحكومية في مسارين مختلفين شكلاً ولكنهما متفقان موضوعاً..(العلاقة بين الدولتين) ونفذ المبعوث الأمريكي باتجاه الضغط على الحكومة لقبول (الخارطة الأفريقية) لحل قضية أبيي كأساس نهائي.. ودخلت روسيا في لعبة المصالح والمناورات من خلال مبعوثها الخاص لتصبح القضية السودانية ساحة جديدة لتنافس وحرب أمريكية روسية بعيداً عن مسارح الحرب القديمة التي انتهت بهزيمة موسكو وتفكيك إمبراطورية الدب الشيوعي لصالح البقرة الأمريكية.
{ التفاوض على الحافة:
المخاض العسير لمفاوضات السلام بين الدولتين يمثل الوجه الحقيقي للاحتقان النفسي بين سودانيين استحال التعايش بينهما تحت سقف جغرافية واحدة، فاختار الجنوب بأغلبية سكانه الانفصال، بينما اختار الشمال الدهشة والحسرة والترقب والانكفاء على أحزانه، ووسط النخب الجنوبية تيار نافذ وعريض ومؤثر جداً يرفض أي تقارب مع الشمال وتخزن مخيلته كل ما هو سالب ومشين عن الشمال والشماليين، وهؤلاء غالبهم ممن نشأوا في أحضان معسكرات اللاجئين ومخيمات النزوح ومن تفتق وعيهم خارج حدود الوطن في أستراليا والولايات المتحدة الأمريكية وفي مصر وكينيا، وأغلبهم من الفئات العمرية دون الثلاثين عاماً.. مشاعرهم نحو الشمال تجذرت فيها الكراهية بسبب الحرب، وهذا التيار هو من قاد حملة سياسية في الجنوب أثمرت عن الانفصال ولا يملك “سلفاكير” القدرة على مواجهة هذا التيار المتنامي العريض، الشيء الذي يهدد بقطع أواصر وصلاة شعب واحد.. لكن الإحن والمرارات مزقت كبده.. ويحدثنا التاريخ كيف تنامى تيار الاستقلال والحرية في أوساط الإريتريين بعد سقوط نظام “منقستو”، وقد تصدى التيار الشبابي في إريتريا لقمع أي صوت يهادن أثيوبيا أو حتى يمد أواصر التواصل معها حتى انفصلت إريتريا ثم غذت تلك التيارات الساحة بالضغائن حتى اندلعت الحرب بين الجارتين بعد استقلال إريتريا، والتقى جيل الرفض الإريتري لكل ما هو أثيوبي مع نخب متنفذة في إثيوبيا لم (تبتلع) مرارة حصول إريتريا على استقلالها، وتربص جنرالات الحرب الأثيوبية بزناوي وحملوه لخوض حرب ضد إريتريا، ومن هؤلاء تيار من (الأمهرا) الذين ينظرون لحكم الجبهة الشعبية لشعوب أثيوبيا بأنه (خائن) منح إريتريا حقاً لا تستحقه.. ولكن في الحالة السودانية لم تنهض تيارات ترفض الانفصال وتناهض تجزئة الوطن، ولكن في كنف الحكومة وتحت إبطيها نشأ حزب يعلم القاصي و(الداني) من هي أمه وأبوه وصاحبته وبنوه وذو ماله وحموه.. يدعو جهراً لفصل الجنوب.. ويبتهج لكل حدث يباعد الشقة بين الجنوب والشمال لتذبح الوحدة الوطنية تحت بصر الذين تعاهدوا بالعمل سوياً من أجل الوحدة.
واليوم يشكل تيار الرفض الموغل في العنصرية بالجنوب لكل ما هو شمال عقبة كؤود تحمل “سلفاكير” حملاً للنكوص عن أي اتفاق مع الشمال وتدفعه للسير على حافة الهاوية، حينما تغذي تلك التيارات الجنوبية الحرب في المنطقتين، وفي السودان بات منبر (السلام العادل) طامعاً في وراثة حكم الإنقاذ، وبات “الطيب مصطفى” هو الخليفة المرتقب لأبن أخته “البشير”، وقد تنامى حزب المنبر وبات معبراً عن الشمال السياسي لا الشمال الجغرافي أكثر من كل الأحزاب بما في ذلك المؤتمر الوطني، وفي مثل هذه المفاجآت السوداوية يخوض الجنرال “عبد الرحيم محمد حسين” وزير الدفاع غمار التفاوض مع دولة الجنوب، بعد أن صعد “حسين” وبزغ نجمه في السنوات الأخيرة، وبات الأقرب لخلافة “البشير” في السلطة حال تنحي الرئيس بعد عامين من الآن، وإن بدا تنحي “البشير” مستبعداً وخيار إعادة انتخابه راجحاً، فإن الفريق “عبد الرحيم محمد حسين” الذي يحظى بثقة الرئيس “البشير” يدرك أن نجاحه في تدارك انزلاق البلدين في حرب مجنونة من شأنه تعزيز فرص صعوده سياسياً وإنقاذ اقتصاد بلاده من الفقر وفتح باب الأمل لشعب تكاثرت عليه الهموم والإحباطات والفواجع.
{ الهروب والذرائع:
ثمة قضايا حقيقية تواجه المفاوضات المتعثرة وتهدد بانهيارها واللجوء إلى الخيار صفر.. والعقبة الكؤود أمام البلدين هي قضية أبيي التي بات العامل الدولي فيها مؤثراً، وقرار مجلس السلم والأمن الأفريقي الأخير أضاء الطريق لمجلس الأمن لتبني الخطة الأفريقية وليس خارطة طريق “أمبيكي” كما تردد بعض أجهزة الإعلام” وينتظر بنهاية مهمة الأسابيع الستة في (15) ديسمبر الجاري صدور قرار من مجلس الأمن (بفرض) حل غير متفق عليه ومر من خلال اجتماعات مجلس الأمن والسلم الأفريقي، حينما وجد السودان نفسه يقف وحيداً في ساحة كلها تتحيز ضده، ورفضت الخرطوم قرار مجلس الأمن والسلم الأفريقي، ولكنها هل تستطيع رفض قرار مجلس الأمن المرتقب؟ الذي إذا تم فرضه، وهذا متوقع ومنتظر، فإن مجلس الأمن بدلاً من المساهمة في فض النزاع سيساهم في سد دروب التسوية وتصبح المفاوضات بين الدولتين عبثية لا طائل منها ولن تقود إلا لاتجاه واحد، وتصريحات وزير الإعلام في حكومة جنوب “برنابا بنجامين” تمتلئ بالثقة الزائدة بكسب قضية أبيي وقد قال لـ(الشرق الأوسط) السعودية: (على الخرطوم تنفيذ ما هو مطلوب منها وهي تعلم ما هو مطلوب).
في وقت تصدى فيه “الخير الفهيم المكي” القيادي البارز بالمؤتمر الوطني وأحد زعامات قبيلة المسيرية لقضية أبيي بعد أن نفض “الدرديري محمد أحمد” يديه عنها، وبات “إدريس محمد عبد القادر” مشغولاً بغيرها، و”أحمد هارون” يقود معركة الدفاع عن كادقلي، وهؤلاء من حملوا قضية أبيي إلى لاهاي ولكنهم اليوم بعيدون عنها.. (يمسك) “الخير الفهيم” (بقفة) أبيي وهو لا يعلم إلى أين سترسو سفينة كثيرة الثقوب.. وتمثل قضية أبيي أزمة نفسه لقيادات الحركة الشعبية من بحر الغزال وأبناء دينكا نقوك، ورسم “دينق ألور” مشهداً لذلك حينما غادر مقر المفاوضات في أديس أبابا في أكتوبر الماضي حينما لم يذعن الرئيس الجنوبي “سلفاكير” لضغوط “ألور” و”إدوارد لينو” بوضع أبيي كشرط وجوب، إما التوصل لحل نهائي لوضعيتها أو تغرق المفاوضات في لجة بحر لا ساحل له.
القضية الثانية التي تشكل عقبة كؤود ومعضلة حقيقية هي ما يعرف باتفاق الترتيبات الأمنية والعسكرية، وهذا الاتفاق سيظل حبراً على ورق وغير قابل للتطبيق إذا كانت الحرب مشتعلة على طول حدود تبلغ (100) كلم على تخوم جبال النوبة أو جنوب كردفان وحدها.. وترفض حكومة الجنوب رفع يدها عن دعم متمردي قطاع الشمال وتعتبرهم أصحاب قضية عادلة تستحق المؤازرة، وقد أفرزت الحرب الأخيرة واقعاً جديداً بلجوء أعداد كبيرة من سكان المنطقتين لدولة جنوب السودان التي لم تصدق أن آلاف النوبة لجأوا لأحضانها.. فراراً من الحرب ومن الأخطاء الكبيرة للحكومة رفعها لشعارات تناهض قيام معسكرات لإيواء الفارين من الحرب فلجأ هؤلاء تحت وابل قذائف الهاون والكايتوشا لأرض الجنوب ولم تتعلم الحكومة من تجربة حرب الجنوب، وكيف إن حصاد الحرب النهائي كان الانقسام الذي لعب فيه شباب معسكرات اللاجئين دوراً محورياً ومهماً، وهؤلاء كما ورد في صدر المقال يشكلون اليوم خميرة (عكننة) ويناهضون أية تصالح مع حكومة الشمال مدفوعين بالمرارات القديمة، وإذا كانت الحكومة قد حققت تقدماً كبيراً على الأرض في النيل الأزرق واقتربت من حسم المعركة العسكرية لصالحها هناك، إلا أن القضية السياسية في النيل الأزرق يشكل واقع الحكومة الآن تراجعاً عن الحكم الاتحادي، وقد (عسكرت) الحكومة النيل الأزرق وبعثت برتبة اللواء من مرقدها القديم وأعادتها للجنرال المتقاعد “الهادي بشرى” الذي أفلح حتى اليوم في الملف الأمني، ولكنه حتماً يحقق فشلاً سياسياً ذريعاً مع مطلع كل صباح، لا لخطل الأداء أو أنه رجل تعوذه الحكمة والكفاءة في الإدارة، بل يشكل وجود الرجل في منصب الوالي وهو قادم إليها من قلب أم درمان إجهاضاً لمضمون الحكم الفيدرالي، وبات الحديث الآن في النيل الأزرق عن المشورة الشيعية كتزجية لسد فرغ السياسيين في مجالس الأنس.. أما في جبال النوبة فالأوضاع غاية التعقيد والبؤس الشديد، وقد وعدت الحكومة على لسان الوالي “هارون” بصيف ساخن يعيد كل المناطق التي سيطرت عليها قوات التمرد قبل هطول الأمطار في مايو القادم.. وقد تمددت الحركة في جبال النوبة عسكرياً وخنقت الولاية من عنقها وبانت كادقلي اليوم كمدينة أشباح ينعق عليها (البوم) ويفرخ في منازل أهلها (الوطواط) وتغشى جبالها قاذفات اللهب، ويعيش ما تبقى من شعبها في جحيم لا يطاق.. ونظراً لجغرافية المنطقة ووعورتها وشعاب جبالها فإن التمرد يعتبرها منطقة عملياته الأولى.. وحينما تستعصى الحلول ويضحى الرهان على البندقية وحدها.. فإن استقامة علاقات بين الشمال والجنوب في مناخ حرب المنطقتين تمثل المستحيل عينه!
{ التفاوض تحت السيف:
المفاوضات المنتظرة في هذا الأسبوع للجنة السياسية والأمنية بعد اجتماعات اللجان الفنية غداً (الأحد) لإعادة الروح لاتفاق التعاون ستواجه ذات القضايا التي أقعدت بالتنفيذ في ظل التوصيف الخاطئ لمداخل الحلول، فالعلاقات بين الدولتين لا ينبغي أن يقرر في مصيرها الجنرالات.. وإلا لحقق الجنرالات طوال (21) عاماً من الحرب الاستقرار والنماء وكتبوا بجهدهم ميثاق الوحدة.. بيد أن طبيعة النظامين في الخرطوم وجوبا (تغلب) على (تطبعهما) وكلاهما نظام عسكري وإن تمسح بالمدنية.. ولذلك (تعلو) الاعتبارات الأمنية والعسكرية لكل النظامين على الاعتبارات السياسية، واتصالات “البشير” بالسيد “سلفاكير” (الاثنين) الماضي تمثل استثناءاً لسلوك ظل يحكم العلاقة ويكيف مسار التفاوض بإعلاء القضية الأمنية والعسكرية على الإرادة السياسية، وتصبح بذلك المؤسسات العسكرية هي الحاكمة والضابطة و(المهيمنة).. لكن الرئيس “البشير” وهو سياسي أكثر منه عسكري لأن “البشير” ظل يدير الشأن السياسي لمدة (23) عاماً بينما لا يتعدى عمره القيادي في الجيش الـ(15) باعتبار أن الضابط يتبوأ المقعد القيادي من رتبة النقيب.. ومبادرة الرئيس “البشير” السياسية هذه المرة إذا تجاوزت الشروط الخاصة من أين تبدأ خطوات تنفيذ اتفاق التعاون فإنها تمثل بأرقة أمل جديدة بإعلاء الاعتبارات السياسية على ما عداها من اعتبارات.. هناك اقتصاديون يعتبرون المدخل الموضوعي لعلاقات مستقرة بين البلدان هو مدخل اقتصادي يحقق مصالح الدولتين في التعايش، ولكن هؤلاء يجهلون الواقع الاجتماعي والثقافي لدولة مثل السودان القديم، وتطبيق اتفاقية قسمة البترول وحدها في ظل حرب تدور رحاها في مناطق إنتاج البترول أو عبوره تمثل حلماً جميلاً وسراباً لا يذهب بعطش ظامئ في قلب الصحراء.. والاتفاق السياسي للقياديين يحل المشاكل العالقة يمثل المدخل الموضوعي المفقود الآن لتجاوز التفاوض تحت ظل سيف التهديد والوعيد.. ويملك “البشير” وحده إنقاذ أي قرار في السودان، ويملك “سلفاكير” أيضاً الحق ذاته والقدرة رغم وجود تيارات في الجنوب تتربص بـ”سلفاكير”، وتسعى لتباعد الشقة والمسافات مع الشمال.. ولكن “البشير” هنا هو من بيده كل المفاتيح في الحكومة ولا يقوى سياسي داخل حزبه رفع حاجب الدهشة من أي قرار يصدره “البشير”، فهل تطفئ اتصالات “البشير” بـ”سلفاكير” شرارة الحرب التي أخذت تشتعل في ثياب البلدين؟!