تقارير

“كرم الله عباس” يقفز من سفينة يراها غارقة!!

السودان ومعادلات القرن الأفريقي

الوالي السابق ينسى العُشرة ويعض الأيدي التي أحسنت إليه
حديث السبت – يوسف عبد المنان

تتسارع خطى الأحداث بالقرن الأفريقي بعد وصول رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد” وعلى طريقة هدم جدار برلين العازل بين الألمانيتين الشرقية والغربية بعد سقوط الشيوعية في مهدها، وتفكك الاتحاد السوفيتي وربيبته وجارته يوغسلافيا.. يقفز “أبي أحمد” من عاصمة عربية لعاصمة أفريقية، ويطوي نزاعاً حدودياً بين إثيوبيا وإريتريا.. ويتجه الآن لترتيب الأوضاع في دولة الصومال بعد اطمئنانه لقرب وصول الفرقاء الجنوب السودانيين لاتفاق نهائي يعيد الاستقرار لأحدث دولة نالت استقلالها في القارة الأفريقية.. وجاءت خطوات رئيس الوزراء الإثيوبي “أبي أحمد”- ذي الأربعين عاماً- نحو الجارة اللدود إريتريا بعد مضي فقط مائة يوم على وصوله للسلطة في أكبر وأهم دولة بالقرن الأفريقي.. وخطواته هذه ترسم ملامح مرحلة جديدة في المنطقة يصمت فيها صوت السلاح.. وتعود لإثيوبيا الطمأنينة والسلام ببناء نظام إقليمي جديد وبتحالفات يساهم فيها الخليج العربي الذي تشغله الأوضاع في القرن الأفريقي تحسباً لمآلات حرب اليمن والتسابق الإيراني- الغربي على مياه البحر الأحمر.. فهل الخطوات المتسارعة التي يقوم بها رئيس الوزراء الإثيوبي تقف من ورائها قوة دولية تدفع باتجاه إعادة ترتيب المنطقة؟ أم هي مشروع إثيوبي لرئيس الوزراء القادم من فخذ أكبر قومية إثيوبية هي الأورومو ،الذين خاضوا معارك شرسة في مواجهة الرئيس الأسبق “منقستو هايلي مريام” ولعبت قومية الأورومو دوراً مهماً في إسقاطه.. ولكنها لم تحصد شيئاً بعد ذلك، واستأثرت بالحكم قومية التقراي بعد إزاحة الأمهرا ولعب تحالف (الجبهة الثورية الديمقراطية للشعوب الإثيوبية) دوراً مهماً في رسم ملامح إثيوبيا الحالية.. وفي خطوة رفعت رئيس الوزراء السابق “هايلي ديسالين” إلى مقام الزعامات الكبيرة في بلدٍ شديد التنوع والتعدد، تقدم “دسالين” باستقالته من منصبه حينما استشعر أن وجوده في كرسي السلطة من شأنه تقسيم المجتمع الإثيوبي.. وإراقة دماء أبناء وطنه.. فانتصر لقيم الفضيلة ونزع عن نفسه حب شهوات السلطة، وجاء رئيس الوزراء الجديد “أبي أحمد” من قلب الأورومو لرئاسة الائتلاف الحاكم في مفاجأة كبيرة.. فهل كان للغرب دور في تنصيب رجل المخابرات شديد الذكاء لإعادة ترتيب القرن الأفريقي؟؟
{ القاهرة وأسمرا
بعد أن كاد ملف سد النهضة أن يتسبب في حريق جديد بالمنطقة بين أكبر دولتين (إثيوبيا ومصر) فاجأ رئيس وزراء إثيوبيا “أبي أحمد” الجميع وطار إلى القاهرة التي استقبلته بحفاوة مشوبة بالحذر والتردد.. ولكن مصر التي توجست من بناء سد النهضة وناهضته بكل الوسائل، وكاد الرئيس السابق د.”محمد مرسي” ، أن يوجه بضرب منشآت السد، وجدت تطمينات من القيادة الإثيوبية التي أقرت بإشراك مصر فنياً في مراقبة تدفق المياه لبحيرة السد، وأن تمتد سنوات ملئها لسبع سنوات.. وعملياً نزع رئيس الوزراء الإثيوبي فتيل الاحتقان والتوتر.. وحل مكانه التفاهم والتعاون.. وأصبحت أعمال اللجان الفنية المتعثرة بمثابة لجان لرسم حدود أعمالها بدلاً عن حل المشكلات العصية.. وهي بالطبع لجان ثلاثية بين السودان، إثيوبيا ومصر، ولكن بعد التفاهمات التي جرت في القاهرة ما عادت ثمة حاجة إلى كثير من عقد اللقاءات.
وبعد القاهرة اتجه رئيس الوزراء الجديد لإثيوبيا نحو الجارة إريتريا (ذات العينين الساهرتين) في إشارة إلى الموانئ الإريترية على البحر الأحمر.. وكانت السلطة قد فرقت بين تحالف سنوات النضال وفضت شراكة البندقية التي تشكلت بين (الجبهة الشعبية لتحرير إريتريا) و(الجبهة الشعبية لتحرير التقراي) وقد ساهمت الجبهة في إسقاط “منقستو هايلي مريام” لكن ثمرات السلطة فرقت بينهما، وتنامت جرثومة العداء حتى أراق الإثيوبيون دماء الإريتريين، وكذا فعل الإريتريون وقد استمرت الحرب التي نشبت بين إثيوبيا وإريتريا لمدة عامين قبل أن تتدخل القوى الدولية وتفرض على الدولتين احترام كل دولة لسيادة الأخرى.. ورفض الإثيوبيون كما هو معلوم قرار لجنة الأمم المتحدة بترسيم الحدود، ويشعر الإثيوبيون وخاصة الدولة العميقة التي يسيطر على مفاصل الخدمة المدنية فيها الأمهرا ،بأن استقلال إريتريا جعل الدولة الإثيوبية ضعيفة تبحث عن منافذ بحرية، ولجأت إثيوبيا للموانئ السودانية خاصة بعد أن أصبحت الموانئ الصومالية (صعب الوصول إليها).. والأراضي الصومالية كانت مسرحاً لنزاع القوى الإقليمية والدولية خاصة إثيوبيا وإريتريا، ما عقد المشكلة الصومالية أكثر.. وجاءت زيارة رئيس الوزراء الإثيوبي إلى أسمرا بعد سنوات من القطيعة.. والصراع والدماء والدموع، وبذلك دخلت منطقة القرن الأفريقي في حسابات جديدة ومعادلات ممتدة من الرياض وأبو ظبي وأديس أبابا والقاهرة.. وكان لافتاً الوجود العربي في إثيوبيا خلال الفترة الماضية.. والاستثمارات التي تدفقت والأموال السعودية والإماراتية التي تم بها تغذية خزانة إثيوبيا.. ولكن الخطوات التي أقدم عليها رئيس الوزراء الإثيوبي لها ردة فعل داخلية، وكاد أن يدفع حياته ثمناً لقناعاته حينما تعرض لمحاولة اغتيال في قلب العاصمة أديس أبابا، وكل التوقعات تشير لتصاعد معارضة قومية التقراي، لسياسات رئيس الوزراء خاصة على صعيد إريتريا من جهة ،والتغييرات في أجهزة الدولة التنفيذية التي طالت جهاز المخابرات وقيادة الجيش.. وقد شعر التقراي أن نفوذهم الكبير آخذ في الاضمحلال، وتسارع خطوات التطبيع مع إريتريا قد تلحق بهم الضرر.. إلا أن الأوساط الشعبية الإثيوبية لا تخفي تأييدها للرئيس وإسناد خطواته الإصلاحية داخلياً وخارجياً.
{ السودان وموقعه من الإعراب
بعد التدابير التي اتخذتها الحكومة الإثيوبية الجديدة واتجاهها نحو القاهرة وأسمرا.. تصوّب نظرها الآن إلى الصومال لإطفاء الحريق الصومالي وإعادة الاستقرار للدولة التي مزقتها الحرب.. والمشكلة الصومالية بدأت بإقليم (الأوغادين) الذي كان الرئيس “سياد بري” قد عزم على خوض حربه فيه وحشد جيشه وأعد قواته المدعومة عربياً وغربياً لزعزعة الاستقرار في إثيوبيا الشيوعية حينذاك، وقبل دخول القوات إقليم (الأوغادين) وخوض الحرب التي أعد لها “سياد بري” جاءت هواتف الليل.. وضغوط الغرب لحسابات خاصة بإيقاف تقدم تلك الجيوش نحو (الأوغادين) بل انسحب “سياد بري” من مسرح الحرب بعد تعبئة جيش الصومال، وعند عودة الجيش من (الأوغادين) تمت الإطاحة بـ”سياد بري” ولم يكتب للصومال الشفاء حتى اليوم، والآن تبدو التحالفات الجديدة عاملاً حاسماً في مصير الإقليم، ولكن المُلح ما هو دور السودان في الذي يحدث؟؟ وقد كانت العلاقة الإستراتيجية بين السودان وإثيوبيا تستند في الأساس إلى علاقات تاريخية مع قيادة إقليم التقراي، الذين أصبحوا اليوم في مواقع المعارضة.. والمصالحة بين إريتريا وإثيوبيا لها آثارها المباشرة على علاقات السودان مع إريتريا، التي تدهورت في الشهور الأخيرة لأسباب خارجة عن جغرافية الإقليم، لعبت دوراً سالباً في تحريض الإريتريين.. و”أسياس أفورقي” لم يطمئن في أي يوم من سنوات حكمه إلى أن الخرطوم التي جاءت به وبـ”زيناوي” قد توقفت عن إعداد قادة بديلين.. والخرطوم بعد التغييرات التي أحدثها الرئيس “البشير” مؤخراً في هيكل الدولة وتعيين الفريق “صلاح قوش” في منصب مدير جهاز الأمن وتعيين “الدرديري محمد أحمد” كوزير للخارجية تتجه لإطفاء النيران المشتعلة.. والتركيز الآن على ملف الجنوب وإحلال السلام هناك، وتمثل مثل هذه المساهمة مدخلاً لتشكيل تحالف الخرطوم وجوبا وكمبالا وأديس أبابا.. وفي ذلك معادلة لا يمكن تجاهلها.. في مقابل تحالفات تمتد ما بين أديس والقاهرة وأسمرا والرياض وأبو ظبي.. فهل السودان مستعد الآن لما قد يحدث غداً من تحولات اقتصادية واجتماعية وسياسية كثمرة لما يقوم به رئيس الوزراء الإثيوبي الجديد؟؟ أم ينتظر السودان ويراقب ما قد يحدث في قادم الأيام؟؟
{ “كرم الله”.. القفز من السفينة!!
في الأيام العصية وتفاقم الأزمات.. وتنامي المشكلات تختبر الأحزاب صلابة عناصرها.. في المعارضة حينما يصبح السجن هو الإقامة الدائمة لمعظم قادة الحزب تُكتشف معادن الصادقين من أصحاب المبادئ، وحتى الأحزاب الحاكمة تتعرض هي الأخرى لاختبارات الثبات حينما تعصف بالحكومات المشكلات وتحاصرها الأزمات مثل عاصفة تظاهرات (سبتمبر) التي أخرجت “محمد عثمان الميرغني” من البلاد ولم يعد حتى اليوم بعد أن خيل إليه أن تظاهرات الاحتجاج على زيادة أسعار الجازولين ستعصف بحكومة “البشير” وحلفائه.. وفي تلك الأيام العصيبة خرج د.”غازي صلاح الدين عتباني” و”حسن عثمان رزق” احتجاجاً على قمع السلطات للمتظاهرين.. ولكن خروج “غازي” ، وهو الذي عرف بالثبات في أحداث ومحنة يوليو 1976م، جعل الكثيرين يعتقدون أنه اختار الهروب في يوم الكريهة.. وفي هذه الأيام العصية حيث تحاصر الحكومة مشكلات نقص السيولة، وتعثر التمويل الزراعي، وتدني سعر الجنية السوداني مقابل الدولار الأمريكي.. والحملة الإعلامية في الوسائط الحديثة على النظام والمؤتمر الوطني الذي وقف عاجزاً عن صدها.. وغابت الرؤية السياسية والخطاب الذي يبعث الأمل في نفوس قواعد الحزب وقواعد الحكومة.. في هذه الأيام تُختبَر إرادة العضوية وصدقها، وقدر ثباتها.. لكن “كرم الله عباس الشيخ” الذي حملته الإنقاذ والحركة الإسلامية من مزارع صغير في القضارف ونصبته رئيساً لاتحاد المزارعين ومن ثم رئيساً لاتحاد عام مزارعي السودان.. ورفعته مقاماً أعلى كرئيس للمجلس التشريعي بولاية القضارف.. ثم والياً لأهم ولاية في السودان.. وبعد سنوات طويلة من الخدمة والأخطاء، يعلن “كرم عباس الشيخ” عن تقديم استقالته من المؤتمر الوطني والحركة الإسلامية.. وذلك خياره وقراره.. لكن “كرم عباس الشيخ” تطاول على الحزب الذي حمله وهناً على وهن ورفعه مقاماً علياً.. وأنكر أفضاله عليه وقال: (لا أحد يمكن أن أسلمه استقالتي).. بهذه اللغة المتعالية التي تفتقر إلى الذوق والكياسة تحدث “كرم الله عباس الشيخ” للصحف الصادرة (الخميس) الماضي.. وزعم أن الشيخ “علي عثمان محمد طه”، النائب الأول السابق لرئيس الجمهورية أرغمه على تقديم استقالته.. وقال في نبرة تشفٍ لا تليق بقيادات في مقامه: (الآن يشرب علي عثمان من الكأس الذي أذاقنا منه).. هل يستطيع السيد “كرم عباس الشيخ” أن يحدث الرأي العام بأمانة عن الأسباب التي دفعت “علي عثمان” أن يطلب منه تقديم استقالته؟؟ حتى لا يقدم إفادات مجروحة في ذمتها.. وتفتقر إلى الموضوعية.. والصدق والأمانة.. والأسباب التي دفعت “علي عثمان محمد طه” إلى طلب استقالة “كرم عباس الشيخ” معلنة للرأي العام، حيث رفض “كرم الله” التعاون مع مؤسسات الدولة.. وافتعل مشكلات مع الواجهات والقوات النظامية وأخلى مكتب الوالي بدعوى تحويله إلى مستشفى ونقل كل نشاطه كوالي لبيته الخاص.. وتفاقمت في عهده قضايا نقص الخدمات.. وظل يتحدث بلهجة المعارضة لا بلسان رجل الدولة الذي لا يبكي مع الرعية ولكنه يمسح دموع الباكيات.. تبدى في فترة “كرم الله عباس” عجز القضارف عن فعل أي شيء.. ووجد الشيخ “علي عثمان” أن بقاء الرجل في منصبه يمثل خطراً على الدولة.. واحتراماً لشعبيته في القضارف المتفق عليها طلب منه تقديم استقالته، ولزم الصمت منذ ذلك الوقت وحتى اليوم، ليخرج أخيراً بحديثه المنشور في صحف الخرطوم ،وهو يمتن على الحزب الذي جعل منه اسماً في الخارطة السياسية.
وبعد مغادرة “كرم الله” لأسوار الوطني يقدم نصحاً في غير مكانه بدعوة الرئيس “عمر البشير” لخوض الانتخابات القادمة مستقلاً؟؟ كيف يستقيل رئيس حزب كبير حكم السودان (30) عاماً ويترك قاعدته التي شيدها بليل الأسى ومُر الذكريات ، كما يقول أستاذ الجيل “حسين خوجلي” ويبحث عن قواعد ليست قواعده؟؟ و”كرم الله عباس” الذي يعدّ من أكثر قيادات ولاية القضارف شعبية ، ويحظى باحترام وسط مكونات الولاية إذا خاض الانتخابات القادمة من موقع المستقلين، سيجد نفسه خارج المؤسسات ،ولن يستطيع منافسة “التجاني سليمان نوح” داخل القضارف ،دعك من “ياسر يوسف” الذي يمثل القضارف الآن في منصب الوالي!! وكان حرياً بالسيد “كرم الله عباس” أن يتعلم من اللواء “الهادي بشرى” كيف يحترم السياسي تاريخه ويرفض الحديث بسوء عن رفاق الدرب وزملاء الكفاح.. واللواء “بشرى” حينما وضع السلاح وعاد للخرطوم وجه إليه الصحافيون أسئلة عن أوضاع المعارضة التي تركها وعاد للخرطوم، فقال عبارته الذهبية (لن أبصق على تاريخي).. ترك “الهادي بشرى” المعارضة، ولم يتحدث عن الرفاق بسوء.. ولذلك حظي باحترام القادم إليهم.. والخارج من سربهم.. لكن “كرم الله عباس” اختار الكلام (الفسل) وقديماً قال شاعر بدوي من بادية البطانة:
الزين مو فسل والفسل ما زين
والجنس الرخيص ما بنفعو التزيين
والدخل البطون ما بتقطعو السكين
وكان حرياً بالسيد “كرم الله” احترام تاريخه والرجال الذين تقاسم معهم (الملح والملاح).. ولأهلنا البقارة في بادية كردفان، مثل بليغ يقول (خَلّك كلمة يوم الغلاط تلقاها).. فلماذا لا يترك “كرم الله عباس” كلمة قد يحتاج لها في مقبل الأيام؟؟ وكثيرون هم الذين خرجوا من أحزابهم وعادوا إليها.. والأيام بين الناس دول.. ومن سرّه زمن ساءته أزمان.

مشاركة

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى
صحيفة المجهر السياسي السودانية