رؤية تشريحية حول تبدُّل القناعات السياسية من خانة المعارضة إلى رحاب المصالحة مع السلطة الحاكمة
معارضون دخلوا قطار السلطة.. موقف انتهازي أم إصلاح من الداخل؟
“فضل الله برمة”: ماذا يقدم للحكومة الحالية من قام بشق حزبه وأسس تنظيماً سياسياً مزيفاً؟
“أمين حسن عمر”: توصيف انتهازي (دقة قديمة) وانتهى زمن التحنط في محطة واحدة
“أبو بكر عبد الرازق”: الذين دخلوا المشاركة تختلف مقاصدهم ما بين الإصلاح والمكاسب الذاتية
“علي السيد”: دخول “الحسن الميرغني” للحكومة نكاية بمجموعة “طه علي البشير”
تقرير – عادل عبده
بعض الساسة الذين ارتبط خطهم العام بالمعارضة الغليظة للإنقاذ والرهان على اقتلاعها من الجذور، صاروا الآن في قطار الحكم، يحتلون المواقع الدستورية ويرفلون في مباهج السلطة، وأصبحت أفكارهم وبرامجهم السياسية تتماهى مع خصوم الأمس بعد أن تبدلت قناعاتهم، وتغيرت بوصلة توجهاتهم من العداوة في وجه السلطة إلى التحالف والمشاركة في قطارها.
في الصورة المقطعية، نجد أبرز الذين تركوا خط المعارضة ودخلوا حكومة الوفاق الحالية يظهر على رأسهم “الحسن الميرغني”، مساعد أول رئيس الجمهورية، “مبارك الفاضل” نائب رئيس الوزراء ووزير الاستثمار، “حسن إسماعيل” رئيس المجلس الأعلى للبيئة بولاية الخرطوم، د. “ميادة سوار الذهب” معتمد الرئاسة بالولاية.. فهل رأى هؤلاء أن السلطة جميلة، مثل طاووس له ألف لون، وأن الإنقاذ عصية على الانكسار، وبذلك تركوا عالم المنافحة والمصادمة واختاروا الوجه الانتهازي الذي يقودهم إلى دروب المصالح والكراسي والغنائم، كما يعتقد البعض؟؟ أم أن هؤلاء لديهم رؤية جديدة ترتكز على إمكانية إصلاح النظام وترميم اعوجاجه، وسوقه إلى النصح، وأن الإنقاذ 2017 لم تعد مثل الإنقاذ 1989؟؟ فالشاهد أن تجربة هؤلاء السياسية تستحق التشريح العميق والقراءة المتأنية في إطار البحث الدقيق الذي يفتح الطريق لمعرفة الأسباب والمبررات التي أملت تلك الخطوات الدراماتيكية لهؤلاء السياسيين من أقصى المواقف إلى أدناها، حيث قمنا باستطلاع رؤية مجموعة من قيادات الأحزاب خارج السلطة، هم اللواء “برمة ناصر” نائب رئيس حزب الأمة القومي، د. “أمين حسن عمر” القيادي بالمؤتمر الوطني، المحامي “أبو بكر عبد الرازق” القيادي بالشعبي، د. “علي السيد” القيادي بالاتحادي الأصل.. فماذا قالوا؟
{ مشاركة “الحسن الميرغني”
أول ظهور لـ”الحسن الميرغني” في ساحة الاتحادي الأصل كان في مؤتمر المرجعيات بمصر 2004م، حيث دخل المكتب السياسي بالحزب، وجاء بعد ذلك إلى الخرطوم وشرع فوراً في إطلاق خطه السياسي القائم على محاربة الإنقاذ ورفض مشاركة الحزب في الحكومة، واستطاع أن يكسب يومذاك مجموعة مقدرة من الشباب والمرأة والقوى الحية في الحزب، بل كان “الحسن” من الراغبين في دخول حزبه في انتخابات 2010م، ووصف المشاركة الحزبية التي نجمت عن تلك الانتخابات بالمهزلة.. لكن سرعان ما بدل “الحسن” قناعته من النقيض إلى النقيض في انتخابات 2015م، حيث ذهب إلى الرئيس “البشير” منفرداً في المؤتمر الوطني وأبرم معه اتفاقية الشراكة في السلطة في حكومة 2015م، في ظل وجود والده مولانا “محمد عثمان الميرغني” في لندن خلال تلك الفترة الزمنية.
يقول الدكتور “علي السيد” إن “الحسن الميرغني” رجل عنيد ومثابر ويتخذ قراراته على جناح السرعة بلا تردد وارتجاف دون أن يلتفت إلى نتائج تلك الخطوات.. وحول دوافع “الحسن” في مشاركته في حكومة الإنقاذ، وتبدل قناعاته، يقول “السيد” إن السبب في ذلك يعود إلى مكايدته لمجموعة الأستاذ “طه علي البشير” في الحزب التي دخلت معه في خلاف عميق عندما عرض عليها مقترح المشاركة في أول الأمر، وزاد “علي السيد” بالقول إن “الحسن” وجد استخفافاً بوجهة نظره من قبل تلك المجموعة وعدم التعاون معه عندما أراد مشاورتهم، فما كان منه إلا أن مضى في خط المشاركة متأثراً بذلك الموقف الذي أثر في دواخله، باعتبار أن “الحسن” شخص مفرط الحساسية، لم يتعود على دحض آرائه من قبل الآخرين، وقد استبعد “السيد” أن ينجم أي إصلاح من الداخل من مشاركة “الحسن” نظراً إلى عدم استقراره في البلاد، وشكواه الكثيرة من تهميش القصر له، فيما ذكر “السيد” أن الإنقاذ جعلت الحياة السياسية عموماً لا تسير بالطريق الصحيح، وأنها تنظر إلى مشاركة الأحزاب الأخرى كأداة تجميلية في المسرح السياسي الذي يتسيده المؤتمر الوطني.
{ دخول “مبارك الفاضل” السلطة
خرج “مبارك الفاضل” من البلاد عقب انقلاب 89 معارضاً شرساً للنظام الجديد، حيث تولى أمانة التجمع المعارض بعد ذلك، وقد استغل هذا الموقع المهم كنقطة انطلاق في مهاجمة الإنقاذ في المحافل الدولية، وإلصاق الكثير من التهم الغليظة بها، فضلاً عن محاولة استمالة الحركة الشعبية في رفع وتيرة العداء والكراهية ضد حكومة الخرطوم في ذلك الوقت، ولا يُنسى دوره في ضرب مصنع الشفاء عام 98.. غير أن “مبارك” بدل مواقفه من المعارضة الشرسة للنظام إلى الدخول في قطار الحكم من خلال خطوة مفاجئة عندما أسس حزبه الجديد باسم “الأمة الإصلاح والتجديد”، حيث تبوأ منصب مساعد رئيس الجمهورية في 2002م، إلى أن تم إعفاؤه عام 2004 بعد خلافه مع الأصل، فعادت وتيرة العداء السافر بينه وبين النظام مرة أخرى، وتم اعتقاله عام 2007م بتهمة التآمر على السلطة، وخرج بعد ذلك من البلاد، حيث قام بإرسال وثيقة سرية للقوى السياسية بالداخل تهدف لإحداث التغيير في البلاد بمعاونة القوى الدولية.. ورويداً رويداً عاد شهر العسل بين “مبارك” والإنقاذ مرة أخرى، فعاد إلى الداخل من خلال أجواء الحوار الوطني والانفتاح على جميع القوى السياسية حتى دخل التشكيلة الأخيرة في حكومة الوفاق الوطني.
يقول اللواء (م) “فضل الله برمة” نائب رئيس حزب الأمة القومي إن هؤلاء الذين بدلوا قناعتهم من المعارضة إلى الجلوس في صولجان الحكومة هم شخصيات سياسية تتهرب من مسؤولية القيادة النزيهة والالتزام الوطني الصادق، وهم بذلك يرتكبون ما يشبه الخيانة في حق هذا الشعب النبيل، وأردف “برمة” قائلاً إن دخول هؤلاء في السلطة يمثل خطوة انتهازية بصريح العبارة، مبنية على الجري وراء المغانم والمكاسب الذاتية والتمتع بالكراسي والمباهج والصولجان، فالشاهد أن الإنقاذ منحتهم السلطة مقابل تدجين مواقفهم المناوئة السابقة، ونسف تاريخهم المعادي للسلطة، وتساءل اللواء “برمة”: أي إصلاح من الداخل وأي مبادرة وطنية يمكن أن يقوم بها هؤلاء بعد أن صار الواحد منهم (صامولة في ترس كبير)؟ بل ماذا في أيديهم وما هي حدود صلاحياتهم وقدراتهم وهم ضيوف على مائدة أصحاب السلطة والقرار السياسي؟ وزاد: (ماذا يقدم للحكومة من قام بمحاولة شق حزبه وخرج على المجموعة وأسس تنظيماً سياسياً مزيفاً ليدخل من خلاله إلى السلطة؟).
{ “حسن إسماعيل” في قطار الحكم
الأستاذ “حسن إسماعيل” من قيادات حزب الأمة الذي يقوده الدكتور “الصادق الهادي”، وكان دخوله الحكومة بعد انتخابات 2015م في منصب وزير الحكم المحلي بولاية الخرطوم بمثابة القنبلة الهيدروجينية التي ألقيت في باحة الساحة السودانية، وذلك بناء على مواقفه البائنة في معاداة النظام ومهاجمته بألسنة من لهيب من خلال مقالاته الصحفية بزاويته الراتبة في العديد من الصحف (هذا قولي)، فضلاً عن إشاراته الحارقة على النظام في المنتديات والليالي السياسية، وقد كان “إسماعيل” قبل ذلك من كوادر حزب الأمة القومي الذي يقوده الإمام “الصادق المهدي” وكان من المتحدثين الأساسيين الذين يهاجمون النظام لصالح الحزب في الجامعات السودانية، لكنه اختلف مع حزب الإمام حيث صار من المهاجمين الأساسيين له، وقبل مشاركته بوقت قليل تحدث “حسن” في تأبين الشهيد “صلاح سنهوري” الذي قتل في أحداث سبتمبر 2013م مطالباً بالقصاص له، علاوة على ذلك فإن رواد المواقع الإسفيرية هاجموه بضراوة على خلفية دخوله الحكومة، ووصفوا خطواته بالانتهازية والوصولية، وأنه تنكر لمواقفه القديمة المصادمة للحكومة.
يقول الدكتور “أمين حسن عمر”: (أنا لا أحبذ توصيف انتهازي الذي يطلق على الذين تركوا المعارضة وصاروا مشاركين في الحكومة الحالية، فهذا التوصيف “دقة قديمة”، فقد انتهى زمن التحنط في محطة واحدة، وإذا كانت أمواج البحر تتجدد والجمادات تتحول بعوامل التعرية، فمن الطبيعي أن تتغير وتتجدد القناعات الإنسانية بمرور الزمن والتجارب، فالأفكار والتصورات الموجودة في الصدور لابد أن تكون مشحونة بمضامين الطموحات والقفز فوق الأشياء البالية)، ويضيف “أمين” إن ما فعله هؤلاء الساسة هو تقدير موقف من وحي العزيمة والتوجه المواكب وليس خطوة توصف بالخيانة والانتهازية، فالمعايير بين البشر لا تتطابق وأن ما يراه شخص معين موقف انتهازي يراه الطرف الآخر غير ذلك.. ويشير د. “أمين” إلى أن اللغة الحارقة والهجومية التي تحاكم الآخرين ما عادت مجدية ونافعة، فمن الذي أعطى هؤلاء المهاجمين فرمانات امتلاك الحق والصواب؟ يجب أن نعلم بأن الحراك الكثيف الموجود في المشهد السياسي يعكس اجتهادات بشرية لا تحمل العصمة من الأفعال السالبة، ويتساءل: (أليس هنالك من يهاجم الأستاذ “حسن إسماعيل” من منطلق الحصار النفسي؟)، ويضيف إن الذين يهاجمون الحكومة والمتعاونين معها لا يمثلون معارضة راشدة تحمل برامج إصلاحية ووطنية لأنها لو كانت على هذا المنوال لكانت أمورنا وأحوالنا على النحو الأفضل، فالإنقاذ نفسها تبدلت وتغيرت إلى مراتب عديدة بفعل دوران الحياة السياسية وحركة المطلوبات الواقعية، فمن الطبيعي أن يوجد في قطارها من كان مخالفاً لها خلال الفترة السابقة. وقال “أمين” إن الإسلاميين حاربوا “النميري” ثم تحالفوا معه، وبعد ذلك اختلفوا معه ودخلوا سجونه، وكان يمكن أن يتصالحوا معه مرة أخرى.. هذا هو ديدن القاموس السياسي وتضاريسه.
{ “ميادة” في حكومة الخرطوم
الدكتورة “ميادة سوار الذهب” رئيس الحزب الديمقراطي الليبرالي ظلت من أبرز القيادات النسوية المعارضة للإنقاذ، وكانت دائماً ترفع شعارات تفكيك دولة الحزب لصالح دولة الوطن، ولا تتورع في المناداة بإسقاط النظام، بل كانت تعدّ إيقاع تحالف قوى المعارضة بالداخل لا يرجى منه، ولا يحمل تفاؤلاً قوياً يحقق الأحلام الوطنية التي تطالب بالتغيير لاستعادة الديمقراطية المطلوبة، وكانت آخر تحركات “ميادة” في عالم المعارضة إطلاقها لمشروع (سودان الغد) الذي يسعى لإسقاط الحكومة الحالية بالوسائل السلمية، غير أنها بعد أيام قليلة من إسدال الستار على الحوار الوطني، استدارت على نحو مفاجئ، وقامت بالتوقيع على الوثيقة الوطنية التي فتحت الباب على مصراعيه لدخولها دهاليز الإنقاذ، من خلال مشهد دراماتيكي أذهل الكثيرين وجعلهم لا يصدقون ما أقدمت عليه “ميادة” المعارضة، التي صارت الآن في منصب معتمد الرئاسة بولاية الخرطوم.
يقول المحامي “أبو بكر عبد الرازق” القيادي في الحزب الشعبي: (لا أعتقد أن الحكومة ستكسب شيئاً إيجابياً من دخول الأحزاب الصغيرة في المشاركة الحالية، وأرى أن توجهات السلطة خاطئة تماماً ولم يحالفها التوفيق في إدخال هذه التنظيمات التي تفتقر إلى العضوية الواسعة، والبرامج المواكبة والخبرة التراكمية في قطار الحكم، فالمسؤولية الوطنية ضخمة والتحديات كبيرة والاختبارات قاسية). ويوضح “أبو بكر” قائلاً إن الذين دخلوا قطار الحكم تختلف مقاصدهم ومراميهم في الوجود بصالون السلطة، فهنالك من يريد الغنائم والمال والبريق في مقابل الذين يريدون الإصلاح والتطوير ودرء المفاسد وإعمال الشفافية والحرية وسيادة حكم القانون، وذلك انطلاقاً من مخرجات الحوار الوطني والوثبة الجامعة، ولا أعتقد أن من لفظه حزبه الكبير وراهن على كسبه الذاتي ومن لا يملك الرؤية الإستراتيجية وقدرة التماهي مع متطلبات المرحلة الدقيقة، يمكن أن يساعد من خلال مشاركته في هذه الحكومة الحالية في الوصول إلى الغايات المنشودة.